أبجديةُ الوجه – بقلم أحمد الشهاوي

احمد الشهاوي

لم أكُن يومًا من الأيام شخصًا جامدًا ذا بُعدٍ واحدٍ، وجدتُنى ابنًا لأبعادٍ كثيرةٍ مُتداخلة وربَّما مُتناقضة فى بعض الأحيان؛ وهذا ما جعلنى مفتُوحًا على الدُّنيا، لا أعرفُ فكرةَ الباب المُغلق، ولو كانت أمامى أبوابٌ مقفُولة، فأنا أستدعى فى مُخيِّلتى وأحلامى أبوابًا وهميَّةً من خَلْقِى، غير نَاسٍ أنَّ أسلافى من المصريين القدماء هم من «اخترعوا» فكرةَ البابِ الوهمىِّ، وما أكثر الأبواب الوهمية التى تركُوها فى آثارهم، شاهدةً على عُمق خيالهم، وإبداعهم، وسعة إدراكهم للعالم والأشياء، فلقد تركتُ وجهى صريحًا عاريًا دُون أقنعةٍ أو تجميلٍ أو ملابس من أيِّ نوعٍ؛ مؤمنًا أن القناعَ يُخْجِلُ ويُذِلُّ، والوجه هو المرآةُ الحقيقية للإنسان، والسلطة المعنوية الأعلى، فهو قمرُ النفس، وشمسُ الرُّوح، ولا أحبُّ له أن يخدعَ أو يواربَ أو يخفى أو يصطنعَ أمرًا أو يتكلفَ شيئًا، أو يمارسَ كذبًا. فوجهى سرٌّ مكشوفٌ مُذَاعٌ على الملأ، حميمٌ لا يكتمُ، من السهل فكّ رُمُوزه وتعبيراته، ونقُوشه القديمة أو الآنية، ولا أتركُه يقعُ تحت رحمة أحدٍ، مهما تكُن مكانته أو مرتبته. الوجهُ يدعُو وينادى ويتحاورُ، ويتكلمُ إذا صمتت الشفتان، بل كثيرًا ما يكونُ أمضَى وأشحذَ فى أوقات السكُوت؛ فمن أحبَّهُ الله، منحهُ وجهًا، هو هبةٌ سماويةٌ، وتجلٍّ مقدَّسٌ للإله، حيثُ يكونُ له الحضُورُ الأعلى فى الأسْر والجذْب والحُلُول، فالآخر فى حَضْرة الوجه، إما أن يقعَ فى الشِراك، أو ينفُرَ فى النأى بعيدًا بلا عودةٍ ثانية، إذ الوجه يحسمُ ويقرِّر بما يحملُ من سُلطةٍ لا نهائية، والوَجْهُ عندى ليس هو ما يواجهك من الرأْس، وفيه العينان والفم والأَنف، ففى الوجه نكشفُ الذات، ونرى – بوضُوحٍ – جوهرَها، هو النداء الصَّامت أو الخفى: لماذا هجرت، أو لماذا تركتنى عند المفترق، أو لماذا جعلتنى أصير وحدى فى غابةٍ ملأى بكائناتٍ لا أتحمَّلُ نظرات افتراسها لى، أو لماذا غبت فى وقتٍ لم يكُن لى سواك فى هذه الدنيا، أو لماذا تركتنى أعانى شظفَ العيش والعَوَزَ، وأنت القريب لى، وتمتلك ما أحتاجُه منك، فهل صرت ذِئْبِى فى هذه الحياة؟، أو أنك نارى وجحيمى؟ لقد أنزلتنى أنا الطائرُ من سمائى، وجعلتنى أمشى على الأرض، رغم أنك تعرفُ أنَّنى أجهلُ المشى، ومنذ ولدتُ وأنا أسعى فى سمواتى، ومخيلتى. وفى الحُبِّ يستطيعُ المرء بسهولةٍ ودون مجهُودٍ أن يعرفَ الآخرَ (الشريك الذى من المُفترض أن يقاسمَهُ الحُب) هل يحبُّه أم أنه يدَّعى الحُب ويفتعله، وأنَّ الحُب لديه مُخطَّطٌ ومُقرَّر سلفًا لأمرٍ من الأمور، الذى ما أن ينتهى، ينسحب الآخر بفجاجةٍ أو بذكاءٍ مُصطنعٍ ومحبُوك؟ ولأنَّ العِشقَ لا يُطلبُ ولا يُشْحذُ، فمن اليسير كشف ما هو كاذبٌ ومُزيَّفٌ؛ حيثُ إنَّ الوجهَ يرى ويؤوِّل ويأسِرُ بما تحمله الرُّوح من جمالٍ وكمال وكنوز نورانية لا ساحل لها. ففى الوجه أدركُ ما وراء الوراء، وما بعد الأشياء، وما خلف الظاهر المرئى لى؛ لأنَّ الوجهَ حياةٌ كاملةٌ، إلهامٌ لا متناهٍ، وليس جُزءًا يحتوى أعضاءً من جسد الإنسان، الوجه مرآةٌ للباطن، وصورةٌ مُثْلى كاشفة لجُوانية صاحبه. وفى الوجه أبجدية لم تصل إليها اللغات التى نعرف، بل إنَّ تعبيرات الوجه أعمق وأدل من الكلام، وأكثر تأثيرًا وتجاوبًا وفاعليةً منه. وإذا كان الحرفُ أُمَّة؛ فإنَّ الوجهَ أممٌ. وقديمًا قيل: «مَنْ لَا تَوَجُّهَ لَهُ وَلَا قَصْدَ وَلَا قِبْلَةَ هُوَ كَذَلِكَ لَا وِجْهَةَ لَهُ وَلَا وَجَاهَةَ».

المصري اليومش