لا أزال أذكر تلك الفعالية الثقافية التي جمعتني بشاعر حداثي، وفيلسوف متفرد، يكبرني بحوالي 10 أعوام، كنت أنظر لمؤلفاته على أنها هذيان محض، لا يفهم القارئ منه شيئاً، وكنت أشفق عليه عندما أرى دور النشر تعتذر عن نشر كتاباته بسبب ضعف الإقبال عليها.
كانت روحه مضيئة ومشرقة، تجذب الآخرين إليه، في كل مكان يتواجد فيه ينشر السعادة والبهجة، يتكلم بعفوية شديدة، لكن بدون أن يُغضب أحداً.
كان يلقي كلماته الإيجابية ثم يغادر سريعاً بدون أن ينتظر ردة فعل، أو يبني خطوة على خطوة، ملامح وجهه ونبرة صوته كانتا تحملان بين طياتهما علامات النقاء والطيبة.
«قل ما في قلبك يا صاحبي، وامضِ في طريقك.. فالكلام الحقيقي تستشعره النفوس السوية، قبل أن تسمعه الآذان».. هكذا كان يردد رفيقي الفيلسوف دائماً.
على طاولة المؤتمر، انبرى أحد الكتاب المخضرمين قائلاً: «إن الأدب العربي يحتضر بعد أن تطفّل عليه الكتاب الشباب، وأن نصوصهم في مجملها لا ترتقي لأن تكون مواد قابلة للنشر».
استفزتني لغة التعميم في كلامه، فهممت بالرد عليه، لكن يد رفيقي الفيلسوف امتدت لي من وراء الطاولة، وأشارت لي بالصمت وتمرير الموقف، وأثناء مغادرتنا القاعة، همس في أذني قائلاً: «الصمت والانتقال إلى حديث آخر هو أفضل رد على من يطلق أحكاماً عامة جائرة بهذه الطريقة، وثق تماماً بأن التصريحات الفارغة لا يلتفت إليها أحد».
حينها فقط.. فكرت وتدبرت في كلامه، وفهمت معنى أن يكون المثقف مُعلماً وأستاذاً.
صحيفة الرؤية