د. عبد الله الغذامي يكتب: تجربة العزلة ودروس الحياة

عبداله الغامذي

قبل أن تصدر قرارات منع التجول مع أحداث كورونا، كنت قد منعت نفسي من التجول وعزلت نفسي بخيار تام ورضى ذاتي، وليس هذا مسلكاً ملائكياً، ولكنه نظام حياة بالنسبة لي، ولذا لم أشعر بالحجر المنزلي، ولا بالعزلة عن الناس، لأني أمضيت عمري كله في حجز منزلي، بين كتبي وأوراقي، ولم أك قط اجتماعياً في حياتي كلها، وخرجاتي قليلة ومحسوبة، ولي صداقات عديدة، ولله الحمد، لكنهم كلهم يعلمون أن كتابي صديقي الأول، ولا أحد يغار من هذا الصديق…
 لم تك هذه الألفة مع البقاء في البيت والعيش مع الكتب، قراءةً ومتعةً وسياحةً ذهنيةً، في بدئها طوعية، بل جاءت قسراً، لأن والدي-رحمه الله- كان يكره ترك الأطفال في الشارع، ولذا احتال علي بأن صار يغريني بالقراءة، وأظهر نفسه أمامي بأنه يريد مني أن أكون من أهل العلم، ويشير للشيخ عبدالرحمن السعدي، الذي كان جاراً ملاصقاً لنا في البيت، وكان السطح الجانبي لبيتنا ملاصقاً لمكتبته، فكنت أراه وهو يقلب الكتب، أو يملأ القلم من المحبرة ويكتب. وهذه صورة كان والدي يدفعني لتمثلها، مع أني كنت أقاوم وأريد الخروج للعب، وكنت أرى تصرف والدي نوعاً من العقاب والقمع، ولكن الزمن مر ليحول هذا لسلوك صبغ حياتي ومعاشي مذ صغري وإلى اليوم، في حياة مع الكتب تحبب لي المنزل، حتى لقد أصبحت مع الوقت أشعر بتأنيب الضمير، كلما أمضيت وقتاً كبيراً خارج المنزل بعيداً عن القراءة والكتب، وتحولت غرفتي في البيت لتغص بالكتب حتى لا يبقى سوى موقع صغير للفراش، وأصبحت حريتي هي القراءة نفسها، حيث معها أطير عبر الأزمنة والأمكنة، وكأن العالم كله تحت أجنحتي، ولذا حين دفعت ظروف كورونا لعزلة صحية ووقائية، فإني بسبب الكتب والمكتبة، أشعر أني في الموقع الذي هو خياري أصلاً وسيرة، وكم هو سعيد من اتخذ الكتاب صديقاً وأنيساً ورفيقاً، إنه الصديق الذي لا يحملك أي تبعات، في حين يمدك بفضاءات مفتوحة على الكون كله؛ بشراً وأمكنة وخيالات تعمر العقل وتمتع النفس، إنها عزلة تعيد معاني الحياة، وتعيد صياغة المفاهيم.
جريدة الاتحاد