«القصيدة المدورة» لا تختزل تجربته وليست علامتها الوحيدة الفارقة
لم يحدث أن التقيت بالشاعر العراقي حسب الشيخ جعفر سوى مرات قليلة، وفي مناسبات ثقافية متباعدة يعود معظمها إلى مهرجان المربد الشعري، في سبعينيات القرن الفائت وثمانينياته. ولما كانت بعض أعماله المبكرة قد سبقتني إليه، فإن المقارنة التي عقدتها على عجل بين شخصية حسب وبين شعره، كانت تشي بنوع من التكامل والانسجام يصل إلى حد التطابق أو التماهي الكامل. إذ ثمّ قدر من الغموض المحير يلف ملامح الشاعر الذي يؤثر الصمت على الثرثرة، والتواري الخفر على الاستعراضية والادعاء والتباهي المنفر بالنفس.
ورغم حرص الشاعر على أن يظهر بمظهر البشوش والحميم إزاء من يلتقي بهم، فإن ابتسامته البادية لم تكن لتنجح في إخفاء سحابة الحزن المبهمة التي تكتنفها، والمتأتية على الأرجح من عوالم ريفية مثخنة بالعزلة والفقر، ومن المخزون التاريخي الذي لا ينفد لشجن العراق ومكابدات أهله المزمنة. على أن الحزن البادي في عيني حسب وملامحه، لم يكن ليعطي من يتأمله انطباعاً بيأس صاحبه أو نزوعه الرومانسي، بل هو حزن مشوب بالتحدي والغضب والتبرم بالواقع.
وإذا كان لي أن أستعيد تفاصيل لقائي الأول بصاحب «الطائر الخشبي»، فإنني أستطيع القول إن حزنه الغاضب وهدوءه المتوتر، كانا يقعان في مكان وسط بين انكسار السياب وغضب خليل حاوي. لا أعرف على وجه التحديد إذا ما كانت مجموعة حسب الشيخ جعفر الأولى «نخلة الله» الصادرة عام 1969. قد تضمنت بالفعل بواكير شعره، أم أن الشاعر قد تعمد القفز عن البواكير التي لم ير فيها ما يستحق النشر في عمل مطبوع. ذلك أن هذا الديوان لا يحمل سمات البواكير التي تتسم في الأعم الأغلب بالكثير من الارتباك والتعثر الأسلوبي، بل يحمل قدراً غير قليل من النضج والدربة والحساسية الإيقاعية والتعبيرية.
وإذا كان بعض الشعراء قد لجأوا لاحقاً إلى حذف أعمالهم الأولى التي تسرعوا في نشرها بدافع الحماس واستعجال الشهرة، فليس من شأن حسب أن يحذو حذوهم بأي حال. على أن ذلك لا يمنع من الإشارة إلى أن الشاعر في عمله الأول لم يكن قد وجد بعد «إيقاعه» الخاص، لا بالمعنى الضيق للكلمة، بل بالمعنى الذي يجعل الإيقاع ناظماً للفرادة في اللغة والأسلوب وسائر أدوات التعبير. واللافت في الأمر أن الانطباع الأولي الذي تكوّن لدي عن تقاطعٍ في الملامح بين الشيخ جعفر وبين كلّ من السياب وحاوي، ما لبث أن انسحب على بواكيره التي حملت ظلالاً واضحة لشجن السياب وترسله الغنائي، وهو ما يجد تمثلاته في قصيدته «جذور الريح» التي يقول فيها:
«قرأنا وجهكِ المهجور في الحفَرِ/ قرأنا وجهكِ المحفور في صخر الفؤاد الجائع العاري/ وأمسكت الأصابعُ والشفاهُ بجرْفك الهاري/ وأرعدت الذرى في القاع واتحدر الهشيم بكل متحدر».
فيما أن نصوصاً أخرى تتقاطع مع مناخات حاوي، المسكونة بالهواجس الحضارية من جهة، والمعتمدة على الضربات المتماثلة للإيقاع المقفى من جهة أخرى. إذ تمة ما يذكّرنا بقصيدة «لعازر» في قول الشيخ جعفر:
«كلما ناديت ذاك الجرف عادْ/ صوتك الخابي مع الريح وأمطار الرمادْ/ لا تدقّ الباب فالباب جدارْ/ ليس خلف الباب إلا ورق الأمس وأكفان الغبارْ». وثمة ما يذكّر بقصيدة «الكهف»، التي تمزج بين النزوع إلى براءة العالم وبين اللغة المحمومة، في قول حسب «أيها الكهف القديمْ/ ها أنا أعوي على بابك كالذئب، طريداً استجيرْ/ في يدي النار التي تنفخ روحاً في الهشيمْ».
على أن قارئ حسب الشيخ جعفر لن ينتظر طويلاً، قبل أن يتلمس مع ثلاثيته الشعرية المتلاحقة «الطائر الخشبي» و«زيارة السيدة السومرية» و«عبر الحائط في المرآة»، المنحى الجديد لتجربة الشاعر التي اتجهت سريعاً نحو مزيد من التميز والخصوصية والتبلور الأسلوبي.
صحيح أن تلك الخصوصية كانت قد ظهرت ملامحها في بعض قصائد عمله الأول، وبخاصة في قصيدته «قهوة العصر»، التي تمتح من خصوبة الريف وتحوّله إلى مادة سحرية غنية ملتبسة الدلالات، ولكن الشاعر بدا في أعماله تلك، أكثر تمكّناً من أدواته، فضلاً عن ذهابه نحو مناطق أكثر عمقاً في استكناه الأسئلة المتعلقة بالذات والوجود.
فهو من ناحية يفيد من عالم التصوف وكشوفه ومعجمه التعبيري، وهو من ناحية أخرى يستند إلى ظهير غير محدود من الأساطير والرموز، سواء تلك المتصلة ببلاد ما بين النهرين، أو التي تجد مرجعيتها في حضارتي اليونان وبلاد فارس، وغيرهما من حضارات العالم. والملاحظ في هذا الإطار أن نصوص هذه الدواوين تنقسم بشكل واضح بين المقطوعات القصيرة والمكثفة، وبين القصائد الطويلة التي يطغى عليها عنصرا الحوار والسرد، وتعتمد ما عُرف لاحقاً بتقنية التدوير. ففي مقطوعة «النار القديمة» تنتقل النار من إطارها الطقوسي المتعلق بمعتقدات المجوس، لتتحد مع حرائق الداخل الإنساني، ومع الصرخات التي ترافق الروح في طريق بحثها عن الخلاص:
«أكلما خبا الصدى والريح/ رأيتُ عينين وحيدتين وامرأه/ توقد ناراً تحت قدْرٍ، والنخيل في الدجى ينوحْ/ ويصرخ البطّ الطريد، والنجوم مطفأه/ أكلما خبا الصدى والريحْ/ وانشقّ قلبي مثل جذع نخلة مجروحْ/ هامت كطيرِ الفلواتِ الروحْ».
في كتابه «أيتام سزمر» يرى الناقد المغربي بنعيسى بو حمالة بأن حسب الشيخ جعفر هو واحد من أبرز الشعراء الأيتام الذين تمكنوا من قتل الأب الرمزي المتمثل بالسياب، على وجه الخصوص، ليقترفوا فعل التمرد والمغامرة الشكلية والتثاقف الحر مع حركة الشعر في العالم.
ويذهب بو حمالة، استطراداً، إلى القول بأن الشيخ جعفر غادر خانة الشعراء التموزيين ليدخل فيما يمكن تسميته بالتراجيديا الأورفية، نسبة إلى أورفيوس الذي كان يفتن الكائنات الحية بموسيقاه الساحرة، والذي فقد حبيبته أوريديس للمرة الثانية، بعد أن تجاهل تحذيرات الآلهة بعدم التفاته نحوها.
والحقيقة أن من يمعن النظر في قصائد حسب، لا بد أن يرى ظلالاً لأوريديس في غير مجموعة من مجموعاته. وسواء أطلق على حبيبته اسم زينا أو أوديت أو ابتهال أو غير ذلك، فإن المرأة عنده لا تحضر بوصفها امرأة من لحم ودم فحسب، بل هي تحضر متداخلة مع عناصر الطبيعة وصوَرها وتجلياتها المختلفة، أو تحضر متماهية مع روح الحضارة القديمة وأماكنها وأطيافها الغاربة.
ولكن ذلك الحضور سرعان ما يتوارى وراء رتلٍ من السراب الخادع «شممت في غرفتها هبّة ريحٍ أتيه/ من مدنٍ مطمورة في غابر الدهورْ/ شممت في غرفتها مجامراً في سرَرٍ/ تقضي سميراميس ليلتها فيها/ كنَمِرٍ جائعٍ حبيسْ/ يلهث ثدياها كخيلٍ متعبه/ مددتُ كفّي نحوها/ نزعتُ عن جبينها النقابْ/ وحينما عانقتها/ طويتُ زندي على ترابْ».
وفي اعتقادي أن تخفف حسب الشيخ جعفر الجزئي من بحري الكامل والرمل، اللذين ألح بعض الرواد على استنفاد احتمالاتهما الإيقاعية، واستثماره اللاحق لإيقاعي المتقارب والرجز، حيث التواشجات الموسيقية المتموجة والأكثر توتراً، قد مكنته من حمل تجربته إلى مناطق ومساحات مختلفة على الصعد النفسية والمعجمية والرؤيوية.
وهو ما ساعده أيضاً على المضي أكثر فأكثر في اجتراح ما سمي بالقصيدة المدورة القائمة على كسر الحواجز بين الأسطر، وتضييق المسافة بين الشعر والنثر، وتهميش التقفية إلى حد الإلغاء، بحيث تصبح القصيدة نوعاً من النص التشكيلي المفتوح على الشعر والسرد والمسرح وغيرها. وإذا كنت لا أحب الأحكام المطلقة في النقد، ولا أجاري فاروق يوسف في ذهابه إلى القول بأن قصيدة حسب «قارة سابعة» هي أعظم ما كُتب في الشعر العربي الحديث، بحيث لم تكن تجارب السياب وأدونيس وخليل حاوي ويوسف الخال إلا تمارين مسرحية ممهدة لتلك القصيدة، فإن ذلك لا يحول دون التنويه بهذا النص العاطفي الطويل الذي تتحول فيه الرغبة الشبقية إلى مثلث متساوي الأضلاع، قوامه اللغة والطبيعة والجسد الأنثوي «وارتحلتُ في انزلاقة اليدين حتى العروة الأخيرة/ اتكأتُ في الظل على انحناءة الشفاه/ فرّ الشعَر الثقيل كالنهرِ،/ ارتمى كالبجع التعبانِ،/ وانهمرتُ في همومه المنهمره/ في شهركِ الثامن مثل الثمره». إلا أن الشاعر، وفق ما أراه، لا ينجح بشكل دائم في إقامة التوازن المطلوب بين مقتضيات التشكيل الإيقاعي وبين متطلبات المعنى. وهو ما يظهر في مجموعته «أنا أقرأ البرق احتطابا» التي تكرر نظامها الثلاثي بشكل رتيب على امتداد مائتين وثمانين صفحة، وبدت ثلاثيات من مثل «جوّفتُ كالقعداء كالكسلى القلمْ/ وقد التقى الرعد القمم/ سلمان للريح النشاره» وكثير غيرها، أقرب إلى التأليف المتعسف منه إلى أي شيء آخر.
من الصعب، أخيراً، أن نختزل تجربة حسب الشيخ جعفر في عبارة أو عنوان بعينهما، وهو الذي لم يتوانَ، في بعض أعماله، مثل «أعمدة سمرقند»، عن توظيف الخرافة في نصوصه، وإقامة حوارات ذات طابع فلسفي بين الحيوانات، على طريقة أحمد شوقي، الذي أهداه الشاعر سونيتاته تلك، على سبيل «الامتنان والذكرى». على أن هاجس حسب في كل ما كتب، هو البحث عن الحياة الغفْل، سواء تجسدت تلك الحياة في مدنٍ غاربة، أو نساء مفقودات، أو لغة متوارية داخل كهوفها المعتمة ودغلها الكثيف.
وهو ما تعكسه بوضوح قصيدته «في أدغال المدن» حيث لا نعثر على فاصل يُذكر بين بهو الفنادق والجذور المجعدة الوجه، أو قصيدة «الإقامة على الأرض»، حيث يرقد طفل من نخيل العراق في مقبرة خلف برلين، ويحتل أسد أشوري مجنح صدارة متاحفها. وحيث وقْع خطى المرأة السومرية، يتردد في أعماق الطرق المجهولة ويخترق الحدود المعروفة للزمن.
وإذ يتخذ الشيخ جعفر من أبي نواس، الباحث عبثاً عن وجه «جنان» السرابي، قناعاً لبحثه المضني عن المرأة المستحيلة، يستعير مرة أخرى قناع أورفيوس التراجيدي ليخاطبه قائلاً: «كلما قيل: آتية، والتفتّ، اختفتْ/ والتلفّت شيمتنا/ فكلّ طيرٍ شاردٍ جنان/ كلّ امرأة عابرة جنان/ والتوسّل الجميل/ والنيازك العمياء في انحدارها/ وكلّ وردة آفلة جنان». ومع أن مظاهر الحنين إلى الطفولة والتشبث بالمكان الأصلي لا تغيب عن نصوص الشاعر، إلا أن هذه النصوص تنفتح في الوقت عينه على أماكن كثيرة، تكتسب عند حسب ألفتها الحميمة التي تتكفل الذاكرة بإبقائها طازجة ونابضة بالحياة. ففي ديوانه «تواطؤاً مع الزرقة» تتحول القصائد إلى رقائم وتعاويذ لمنع النسيان، ولحفظ الوقائع من التسرب بعيداً عن لحظات حدوثها.
كأن حضور الشاعر في العالم هو مزيج من الشجرة والنهر، من الثبات والترحل، من الوطن والمنفى، أو كأنه «خيط مضطرب بين العمارة، مدينته الأم، وبين وموسكو، المدينة التي درس فيها وانعكست ملامحها في كثير من أعماله.
وبين هذه وتلك تنبجس من باطن الذاكرة أصقاع وخرائط وتضاريس، لا يتوانى الشاعر عن تعقّبها في قصائده، أنّى ذهبت به السبل: «عالياً في انحدار الجبال على النهر،/ في الصين/ تبني السنونو بيوتاً لها/ مذ جرى النهر واتحدرتْ بالجروف الجبالْ/ لم أعد أرتجي غير معتزَلٍ في منازلها/ فأصلّي إلى الله/ متّكئاً باليدين إلى الصخر منفرداً/ قائلاً: يا إلهي أعِنّي».
ورغم حرص الشاعر على أن يظهر بمظهر البشوش والحميم إزاء من يلتقي بهم، فإن ابتسامته البادية لم تكن لتنجح في إخفاء سحابة الحزن المبهمة التي تكتنفها، والمتأتية على الأرجح من عوالم ريفية مثخنة بالعزلة والفقر، ومن المخزون التاريخي الذي لا ينفد لشجن العراق ومكابدات أهله المزمنة. على أن الحزن البادي في عيني حسب وملامحه، لم يكن ليعطي من يتأمله انطباعاً بيأس صاحبه أو نزوعه الرومانسي، بل هو حزن مشوب بالتحدي والغضب والتبرم بالواقع.
وإذا كان لي أن أستعيد تفاصيل لقائي الأول بصاحب «الطائر الخشبي»، فإنني أستطيع القول إن حزنه الغاضب وهدوءه المتوتر، كانا يقعان في مكان وسط بين انكسار السياب وغضب خليل حاوي. لا أعرف على وجه التحديد إذا ما كانت مجموعة حسب الشيخ جعفر الأولى «نخلة الله» الصادرة عام 1969. قد تضمنت بالفعل بواكير شعره، أم أن الشاعر قد تعمد القفز عن البواكير التي لم ير فيها ما يستحق النشر في عمل مطبوع. ذلك أن هذا الديوان لا يحمل سمات البواكير التي تتسم في الأعم الأغلب بالكثير من الارتباك والتعثر الأسلوبي، بل يحمل قدراً غير قليل من النضج والدربة والحساسية الإيقاعية والتعبيرية.
وإذا كان بعض الشعراء قد لجأوا لاحقاً إلى حذف أعمالهم الأولى التي تسرعوا في نشرها بدافع الحماس واستعجال الشهرة، فليس من شأن حسب أن يحذو حذوهم بأي حال. على أن ذلك لا يمنع من الإشارة إلى أن الشاعر في عمله الأول لم يكن قد وجد بعد «إيقاعه» الخاص، لا بالمعنى الضيق للكلمة، بل بالمعنى الذي يجعل الإيقاع ناظماً للفرادة في اللغة والأسلوب وسائر أدوات التعبير. واللافت في الأمر أن الانطباع الأولي الذي تكوّن لدي عن تقاطعٍ في الملامح بين الشيخ جعفر وبين كلّ من السياب وحاوي، ما لبث أن انسحب على بواكيره التي حملت ظلالاً واضحة لشجن السياب وترسله الغنائي، وهو ما يجد تمثلاته في قصيدته «جذور الريح» التي يقول فيها:
«قرأنا وجهكِ المهجور في الحفَرِ/ قرأنا وجهكِ المحفور في صخر الفؤاد الجائع العاري/ وأمسكت الأصابعُ والشفاهُ بجرْفك الهاري/ وأرعدت الذرى في القاع واتحدر الهشيم بكل متحدر».
فيما أن نصوصاً أخرى تتقاطع مع مناخات حاوي، المسكونة بالهواجس الحضارية من جهة، والمعتمدة على الضربات المتماثلة للإيقاع المقفى من جهة أخرى. إذ تمة ما يذكّرنا بقصيدة «لعازر» في قول الشيخ جعفر:
«كلما ناديت ذاك الجرف عادْ/ صوتك الخابي مع الريح وأمطار الرمادْ/ لا تدقّ الباب فالباب جدارْ/ ليس خلف الباب إلا ورق الأمس وأكفان الغبارْ». وثمة ما يذكّر بقصيدة «الكهف»، التي تمزج بين النزوع إلى براءة العالم وبين اللغة المحمومة، في قول حسب «أيها الكهف القديمْ/ ها أنا أعوي على بابك كالذئب، طريداً استجيرْ/ في يدي النار التي تنفخ روحاً في الهشيمْ».
على أن قارئ حسب الشيخ جعفر لن ينتظر طويلاً، قبل أن يتلمس مع ثلاثيته الشعرية المتلاحقة «الطائر الخشبي» و«زيارة السيدة السومرية» و«عبر الحائط في المرآة»، المنحى الجديد لتجربة الشاعر التي اتجهت سريعاً نحو مزيد من التميز والخصوصية والتبلور الأسلوبي.
صحيح أن تلك الخصوصية كانت قد ظهرت ملامحها في بعض قصائد عمله الأول، وبخاصة في قصيدته «قهوة العصر»، التي تمتح من خصوبة الريف وتحوّله إلى مادة سحرية غنية ملتبسة الدلالات، ولكن الشاعر بدا في أعماله تلك، أكثر تمكّناً من أدواته، فضلاً عن ذهابه نحو مناطق أكثر عمقاً في استكناه الأسئلة المتعلقة بالذات والوجود.
فهو من ناحية يفيد من عالم التصوف وكشوفه ومعجمه التعبيري، وهو من ناحية أخرى يستند إلى ظهير غير محدود من الأساطير والرموز، سواء تلك المتصلة ببلاد ما بين النهرين، أو التي تجد مرجعيتها في حضارتي اليونان وبلاد فارس، وغيرهما من حضارات العالم. والملاحظ في هذا الإطار أن نصوص هذه الدواوين تنقسم بشكل واضح بين المقطوعات القصيرة والمكثفة، وبين القصائد الطويلة التي يطغى عليها عنصرا الحوار والسرد، وتعتمد ما عُرف لاحقاً بتقنية التدوير. ففي مقطوعة «النار القديمة» تنتقل النار من إطارها الطقوسي المتعلق بمعتقدات المجوس، لتتحد مع حرائق الداخل الإنساني، ومع الصرخات التي ترافق الروح في طريق بحثها عن الخلاص:
«أكلما خبا الصدى والريح/ رأيتُ عينين وحيدتين وامرأه/ توقد ناراً تحت قدْرٍ، والنخيل في الدجى ينوحْ/ ويصرخ البطّ الطريد، والنجوم مطفأه/ أكلما خبا الصدى والريحْ/ وانشقّ قلبي مثل جذع نخلة مجروحْ/ هامت كطيرِ الفلواتِ الروحْ».
في كتابه «أيتام سزمر» يرى الناقد المغربي بنعيسى بو حمالة بأن حسب الشيخ جعفر هو واحد من أبرز الشعراء الأيتام الذين تمكنوا من قتل الأب الرمزي المتمثل بالسياب، على وجه الخصوص، ليقترفوا فعل التمرد والمغامرة الشكلية والتثاقف الحر مع حركة الشعر في العالم.
ويذهب بو حمالة، استطراداً، إلى القول بأن الشيخ جعفر غادر خانة الشعراء التموزيين ليدخل فيما يمكن تسميته بالتراجيديا الأورفية، نسبة إلى أورفيوس الذي كان يفتن الكائنات الحية بموسيقاه الساحرة، والذي فقد حبيبته أوريديس للمرة الثانية، بعد أن تجاهل تحذيرات الآلهة بعدم التفاته نحوها.
والحقيقة أن من يمعن النظر في قصائد حسب، لا بد أن يرى ظلالاً لأوريديس في غير مجموعة من مجموعاته. وسواء أطلق على حبيبته اسم زينا أو أوديت أو ابتهال أو غير ذلك، فإن المرأة عنده لا تحضر بوصفها امرأة من لحم ودم فحسب، بل هي تحضر متداخلة مع عناصر الطبيعة وصوَرها وتجلياتها المختلفة، أو تحضر متماهية مع روح الحضارة القديمة وأماكنها وأطيافها الغاربة.
ولكن ذلك الحضور سرعان ما يتوارى وراء رتلٍ من السراب الخادع «شممت في غرفتها هبّة ريحٍ أتيه/ من مدنٍ مطمورة في غابر الدهورْ/ شممت في غرفتها مجامراً في سرَرٍ/ تقضي سميراميس ليلتها فيها/ كنَمِرٍ جائعٍ حبيسْ/ يلهث ثدياها كخيلٍ متعبه/ مددتُ كفّي نحوها/ نزعتُ عن جبينها النقابْ/ وحينما عانقتها/ طويتُ زندي على ترابْ».
وفي اعتقادي أن تخفف حسب الشيخ جعفر الجزئي من بحري الكامل والرمل، اللذين ألح بعض الرواد على استنفاد احتمالاتهما الإيقاعية، واستثماره اللاحق لإيقاعي المتقارب والرجز، حيث التواشجات الموسيقية المتموجة والأكثر توتراً، قد مكنته من حمل تجربته إلى مناطق ومساحات مختلفة على الصعد النفسية والمعجمية والرؤيوية.
وهو ما ساعده أيضاً على المضي أكثر فأكثر في اجتراح ما سمي بالقصيدة المدورة القائمة على كسر الحواجز بين الأسطر، وتضييق المسافة بين الشعر والنثر، وتهميش التقفية إلى حد الإلغاء، بحيث تصبح القصيدة نوعاً من النص التشكيلي المفتوح على الشعر والسرد والمسرح وغيرها. وإذا كنت لا أحب الأحكام المطلقة في النقد، ولا أجاري فاروق يوسف في ذهابه إلى القول بأن قصيدة حسب «قارة سابعة» هي أعظم ما كُتب في الشعر العربي الحديث، بحيث لم تكن تجارب السياب وأدونيس وخليل حاوي ويوسف الخال إلا تمارين مسرحية ممهدة لتلك القصيدة، فإن ذلك لا يحول دون التنويه بهذا النص العاطفي الطويل الذي تتحول فيه الرغبة الشبقية إلى مثلث متساوي الأضلاع، قوامه اللغة والطبيعة والجسد الأنثوي «وارتحلتُ في انزلاقة اليدين حتى العروة الأخيرة/ اتكأتُ في الظل على انحناءة الشفاه/ فرّ الشعَر الثقيل كالنهرِ،/ ارتمى كالبجع التعبانِ،/ وانهمرتُ في همومه المنهمره/ في شهركِ الثامن مثل الثمره». إلا أن الشاعر، وفق ما أراه، لا ينجح بشكل دائم في إقامة التوازن المطلوب بين مقتضيات التشكيل الإيقاعي وبين متطلبات المعنى. وهو ما يظهر في مجموعته «أنا أقرأ البرق احتطابا» التي تكرر نظامها الثلاثي بشكل رتيب على امتداد مائتين وثمانين صفحة، وبدت ثلاثيات من مثل «جوّفتُ كالقعداء كالكسلى القلمْ/ وقد التقى الرعد القمم/ سلمان للريح النشاره» وكثير غيرها، أقرب إلى التأليف المتعسف منه إلى أي شيء آخر.
من الصعب، أخيراً، أن نختزل تجربة حسب الشيخ جعفر في عبارة أو عنوان بعينهما، وهو الذي لم يتوانَ، في بعض أعماله، مثل «أعمدة سمرقند»، عن توظيف الخرافة في نصوصه، وإقامة حوارات ذات طابع فلسفي بين الحيوانات، على طريقة أحمد شوقي، الذي أهداه الشاعر سونيتاته تلك، على سبيل «الامتنان والذكرى». على أن هاجس حسب في كل ما كتب، هو البحث عن الحياة الغفْل، سواء تجسدت تلك الحياة في مدنٍ غاربة، أو نساء مفقودات، أو لغة متوارية داخل كهوفها المعتمة ودغلها الكثيف.
وهو ما تعكسه بوضوح قصيدته «في أدغال المدن» حيث لا نعثر على فاصل يُذكر بين بهو الفنادق والجذور المجعدة الوجه، أو قصيدة «الإقامة على الأرض»، حيث يرقد طفل من نخيل العراق في مقبرة خلف برلين، ويحتل أسد أشوري مجنح صدارة متاحفها. وحيث وقْع خطى المرأة السومرية، يتردد في أعماق الطرق المجهولة ويخترق الحدود المعروفة للزمن.
وإذ يتخذ الشيخ جعفر من أبي نواس، الباحث عبثاً عن وجه «جنان» السرابي، قناعاً لبحثه المضني عن المرأة المستحيلة، يستعير مرة أخرى قناع أورفيوس التراجيدي ليخاطبه قائلاً: «كلما قيل: آتية، والتفتّ، اختفتْ/ والتلفّت شيمتنا/ فكلّ طيرٍ شاردٍ جنان/ كلّ امرأة عابرة جنان/ والتوسّل الجميل/ والنيازك العمياء في انحدارها/ وكلّ وردة آفلة جنان». ومع أن مظاهر الحنين إلى الطفولة والتشبث بالمكان الأصلي لا تغيب عن نصوص الشاعر، إلا أن هذه النصوص تنفتح في الوقت عينه على أماكن كثيرة، تكتسب عند حسب ألفتها الحميمة التي تتكفل الذاكرة بإبقائها طازجة ونابضة بالحياة. ففي ديوانه «تواطؤاً مع الزرقة» تتحول القصائد إلى رقائم وتعاويذ لمنع النسيان، ولحفظ الوقائع من التسرب بعيداً عن لحظات حدوثها.
كأن حضور الشاعر في العالم هو مزيج من الشجرة والنهر، من الثبات والترحل، من الوطن والمنفى، أو كأنه «خيط مضطرب بين العمارة، مدينته الأم، وبين وموسكو، المدينة التي درس فيها وانعكست ملامحها في كثير من أعماله.
وبين هذه وتلك تنبجس من باطن الذاكرة أصقاع وخرائط وتضاريس، لا يتوانى الشاعر عن تعقّبها في قصائده، أنّى ذهبت به السبل: «عالياً في انحدار الجبال على النهر،/ في الصين/ تبني السنونو بيوتاً لها/ مذ جرى النهر واتحدرتْ بالجروف الجبالْ/ لم أعد أرتجي غير معتزَلٍ في منازلها/ فأصلّي إلى الله/ متّكئاً باليدين إلى الصخر منفرداً/ قائلاً: يا إلهي أعِنّي».
جريدة الشرق الأوسط