هناك مثل عربي قديم يقول «زر غباً تزدد حباً»، وهو قول ما زال شائعاً بيننا، يفيد بأن كثرة الزيارة تقلل الاحترام، وتكثر الملل والكره. ويأخذ المثل صوراً متعددة: تسمعهم في الأردن يقولون: «كثرة الزوار يفقع المرار»، ويقولون في الإمارات «لا تكثر الدوس، ترى يعافونك»، وللهولنديين قول ظريف في ذلك: «الضيف اليومي مثل لص في المطبخ».
وأول من قال «زر غباً تزدد حباً» هو معاذ بن صرم الخزاعي.
أعمامه من بني خزاعة، وكان فارسهم، وأخواله من بني عك. بيد أنه كان يؤثر قضاء وقته بين أخواله، ويكثر من زيارتهم، مما يُعد على غير عادة العرب، فالرجل عندهم بعمومته، لا بخؤولته. وكان معاذ فارساً باسلاً وشاعراً بليغاً.
استعار في إحدى زياراته لبني عك فرساً، وصادفه في طريقه جحيش بن سودة، فتحداه هذا على المسابقة، وقال من سبق صاحبه أخذ فرسه. فتسابقا، فسبق معاذ، وكسب فرس جحيش. ولكنه لم يكن له بها شأن، فجرد سيفه وطعن به الفرس. فاغتاظ منه جحيش، فقال «لا أم لك، قتلت فرساً خير منك ومن والدك»، فرفع معاذ سيفه وضرب به هامة جحيش، فقتله في الحال، ثم التحق بأخواله. وسمع أخ لجحيش بما وقع، فصحب رجلاً معه، وقصدا معاذ للثأر منه. فتصدى لهما وقتلهما، وعاد إلى أخواله، وأنشدهم قائلاً:
ضربت جحيشاً ضربة لا لئيمة
ولكن بصاف ذي طرائق مستك
قتلت جحيشاً بعد قتل جواده
وكنت قديماً في الحوادث ذا فتك
قصدت لعمرو بعد بدر بضربة
فخر صريعاً مثل عاثرة النسك
لكي يعلم الأقوام أني صارم
خزاعة أجدادي وأنتمي إلى عك
فقد ذقت يا جحش بن سودة ضربتي
وجربتني إن كنت من قبل في شك
تركت جحيشاً ثاوياً ذا نوائح
خضيب دم جاراته حوله تبكي
ترن عليه أمه بانتحابها
وتقشر جلدي محرجيها من الحك
تتوق غداة الروع نفسي إلى الوغى
كتوق القطا تسمو إلى الوشل الرك
ولست برعديد إذا راع معضل
ولا في نوادي القوم بالضيق المسك
ثم ظل مقيماً بين أخواله زماناً، حتى خرجوا يوماً للصيد، فتنازع معاذ مع ابن خال له اسمه غضبان، فقال له هذا: «أما والله لو كان فيك خير لما تركت قومك». فوعى معاذ حقيقة أمره وسلوكه، فشد متاعه وعاد إلى أهله من بني خزاعة، وتمتم قائلاً: «أجل، زر غباً تزدد حباً». فأرسلها مثلاً من الأمثال الحكيمة، وسمع الشعراء بذلك، فقال قائلهم:
إذا شئت أن تقلى فزر متواتراً
وإن شئت أن تزداد حباً فزر غباً
جريدة الشرق الأوسط