ما إن نال العراق استقلاله عام 1920 حتى أصبح قبلة لأدباء الأمة العربية وعلمائها وفنانيها. كان منهم محمد عبد الوهاب ويوسف وهبي وأم كلثوم، ومن الزعماء والمفكرين عادل أرسلان وزكي مبارك وأمين الريحاني وسواهم. أقام رئيس الوزراء ياسين الهاشمي، حفلة تكريمية لعادل أرسلان عند زيارته لبغداد. لم تكن عندئذ أي قاعة للاجتماعات في العراق، فجرى الحفل في «سينما رويال»، التي تحولت فيما بعد إلى «سينما الحمراء» في شارع الرشيد قرب الجسر القديم. جرى تنظيم الحفل بصورة مستعجلة، فلم تصل الدعوات إلى الشاعر معروف الرصافي والشاعر الشعبي الملا عبود الكرخي. فشعرا باستياء كبير عن هذا الإغفال.
حضر لزيارتهما صديقهما القديم بديوي الحاج رحومي، فوجدهما في هذه الحالة الكئيبة من الزعل. فسألهما عن ذلك، فأجابه عبود الكرخي قائلاً: «الطابوق نام والحصو قام». لم يفهم بديوي ما الذي قصده من ذلك. فسأله صاحبه فروى له ما حدث من أن رئيس الوزراء أقام هذا الحفل الكبير احتفاء بضيف العراق عادل أرسلان، ولم يوجه دعوة لأي منهما. قال الكرخي هذا حفل كان المفروض أن يترأسه الرصافي نفسه. وصل هذا الكلام إلى علم ياسين الهاشمي، فبعث إليهما شفيق نوري السعيدي، ليعتذر لهما عما حدث، ويفسر كيف جرى الخطأ سهواً وأدى إلى عدم وصول الدعوة لأي منهما. توسل إليهما بالحضور، ولكن الرصافي رفض الاعتذار بإباء وإصرار كعادته. وأيده في ذلك عبود الكرخي.
عاد شفيق نوري السعيدي من حيث أتى، ليبلغ رئيس الوزراء بزعل الرصافي ورفضه الحضور. ما كان من ذلك الزعيم السياسي الخطير ورئيس الحكومة غير أن يتوجه بنفسه إلى بيت معروف الرصافي في الصابونجية، ليعتذر إليه وإلى عبود الكرخي اعتذاراً شخصياً، ويهيب بهما أن يقبلا اعتذاره ويحضرا الحفل. استطاع في الأخير أن يتغلب على اعتراض الرصافي وزعله ويقنعه بالمجيء.
جرى الحفل في موعده، فافتتح ياسين الهاشمي نفسه الجلسة بكلمة ارتجلها واحتفى فيها بالضيف، وأشاد بدوره في القضايا الوطنية، ثم تلاه الخطباء والشعراء الآخرون. لاحظ الجمهور سكوت الرصافي طوال ذلك. ورأوه يدعك شنبه على عادته عند الغضب. فرغم قبوله اعتذار الهاشمي وحضوره الحفل، إلا أنه ظل يشعر بالإساءة… يظهر أنه كان يعد نفسه ليعبر عن غيظه. أخيراً احتشد القوم حوله يتوسلون به أن يلقي شيئاً من الشعر. قام أخيراً وصعد المنصة وبدأ بارتجال الشعر. بدأ بالاحتفاء بالضيف حسب التقاليد فقال:
علم يعززه من دولة علم
في كل عصر به قد سادت الأمم
استمر في التنفيس عن مشاعره وطلعاته الوطنية إلى أن خلص في الأخير إلى شكواه من رئيس الوزراء، فالتفت إلى الضيف عادل أرسلان وقال:
يا عادلاً كاسمه لا تنس مظلمتي
عندي خصوم وما عندي لهم حكم
ما إن قال ذلك حتى دوى التصفيق والاستحسان والهتاف لما يقرب من ربع ساعة. وقد أحرج بذلك رئيس الحكومة، لا سيما بعد إشارته في كلماته «عندي خصوم». ومع ذلك فإن ياسين الهاشمي أسرع إليه ليكرر اعتذاره ويأخذ من خاطره، ويؤكد له أنه ليس واحداً من خصومه. بيد أن للموضوع أبعاده السياسية، فقد كان ياسين الهاشمي ممالئاً للإنجليز، وكان الرصافي من أقطاب المعارضة.
جريدة الشرق الأوسط