العبارة، في العنوان، مأخوذة من رواية «صيف في أستوكهولم» للأديب المغربي عبدالكريم الخطيبي. في التعليق على هذه العبارة أوضح الخطيبي نفسه، أن قوله هذه العبارة أشبه بمحاكاة القول عن إنسان تقي: «مات بالأمل». والعبارة الواردة في «صيف في أستوكهولم»، مستقاة، حسب كاتبها نفسه من حكاية استعارية تخّيلها ليجعل القارئ يحسّ كيف أن التلفاز بات يضبط إحدى معطيات عصرنا.
الرواية، كما توضيحات الكاتب نفسه عنها، تعود إلى نهايات القرن الماضي، القرن العشرين. حينها لم تكن لوسائل التواصل الاجتماعي بمنصاتها المتعددة، والآخذة في التناسل بشكل مذهل، السطوة التي باتت عليها اليوم. وحتى التلفاز بمعناه التقليدي الذي نشأنا معه، واعتدنا مشاهدة مجموعة المحطات التي تبث عليه من بلدان وبلغات مختلفة، آخذ إلى التراجع لصالح المنصات الجديدة من نوع «نتفليكس» وسواها، مُحدثاً تغييرات في أنماط المشاهدة الجماهيرية، دون أن ننسى أن الشاشة هي نفسها، شاشة التلفزة التي ألفناها.
كأن الخطيبي بعبارته تلك يضعنا في دائرة التفكر في أن الزمن التقني الذي بتنا فيه بسرعته وتذكراته، يستبدل ذاكرتنا بذاكرة اصطناعية، أو فلنقل مصطنعة، حتى لتكاد ذاكرتنا الأصلية تتلاشى أمام هذه الذاكرة المصطنعة، لدرجة أن المتفرج، وفي تعبير أشمل: المتلقي، يعتقد أنه عاش ويعيش حياة مستعارة.
منذ القرن الماضي توقع المستقبليون أن القرن القادم، الذي بتنا اليوم فيه، سيكون قرناً سمعياً بصرياً، ولم يعد بوسع وارثي «حضارة المكتوب»، والتعبير هنا للخطيبي نفسه، إلا أن يُكيفوا أنفسهم مع المعطيات الجديدة.
لا يمكن إيقاف عجلة التطور. المطلوب هو عقلنة هذا التطور وأنسنته. فما جرى ويجري كان عبارة عن الزج بنا في لجة التسلية، التسلية الفارغة من المحتوى، وتحويلنا، أكثر فأكثر، إلى عبيد للسلعة، للاستهلاك العبثي، الذي يقترح علينا احتياجات غير ضرورية وربما تافهة، ولكن غواية وجاذبية التسويق لها يجذبنا جذباً إلى مغناطيسها فلا نملك منه فراراً.
ما فرضه «كوفيد -19»من تدابير صارمة، أظهر أن الناس يمكن أن يستغنوا عن الكثير من العادات الاستهلاكية دون أن يموتوا، أو يصابوا بالبؤس، لكنه أظهر أيضاً مقدار هشاشة أجسادهم أمام فيروس غير مرئي، يفتك بهم فتكاً أشدّ من فتك الأسلحة.
والدرس هنا واضح. نحن نحتاج قبل وسائل التسلية والاستهلاك إلى أدوية فعالة تقينا الأمراض والأوبئة الفتاكة. إلى منظومة متكاملة للرعاية الصحية والاجتماعية التي تغطي مظلتها الجميع دون استثناء. وهذا كله لن يكون ممكناً دون التأكيد على البداهة المنسية: حياة الإنسان وكرامته أولاً.
جريدة الخليج