تانيزاكي يكشف بطريقة شاعريّة عن خفايا الحضارة اليابانية، محاولا أن يلفت انتباه أبنائها إلى التشوهات الشنيعة التي أصابتها بسبب تأثيرات الحضارة الغربية.
رغم أنه لم يحصل على جائزة نوبل للآداب مثل مواطنه ياسوناري كواباتا، فإن جونيتشيرو تانيزاكي (1886 – 1965) يعتبر بشهادة كبار النقاد، واحدا من أكبر الروائيين العالميين في القرن العشرين. وخلال مسيرته الأدبية المديدة، كان يتحاشى الأضواء، وينفر من العيش في المدن الصاخبة والكبيرة. كما أنه حرص في جل أعماله على إحياء التراث الياباني القديم، ممجدا إياه، ومنتقدا الحضارة الغربية التي قوّضت العديد من قيمه الجمالية والإنسانية الرفيعة.
وفي كتابه البديع “مديح الظل”، يكشف تانيزاكي بطريقة شاعريّة أخّاذة عن خفايا الحضارة اليابانية، محاولا أن يلفت انتباه أبنائها إلى التشوهات القبيحة والشنيعة التي أصابتها بسبب تأثيرات الحضارة الغربية. في بداية هذا الكتاب، يتحدث تانيزاكي عن إعجابه بـ”بيوت الراحة” المشيّدة بحسب المعمار الياباني الأصيل.
وهذه البيوت توجد خارج البناية الأصليّة. ويتوجه إليها الإنسان عبر مسلك يخترق حديقة بديعة تتعالى منها روائح الأوراق الخضراء والقشدة المعطّرة. وفي نور خفيف، يقضي الإنسان شؤونه وهو غارق في الأحلام. وبإمكانه أن يتأمل وهو يفعل ذلك، زرقةَ السماء، وجمال الحديقة، وأن يستمتع بالسكينة والهدوء، مستمعا إلى المطر وهو يسقط ناعما ومنتظما على الأوراق، وعلى الأرض. وتنسجم هذه الأماكن مع أصوات الحشرات، وزقزقة الطيور. كما تزداد جمالا وفتنة في الليالي التي يكتمل فيها القمر. ويضيف تانيزاكي قائلا إنه بإمكان الإنسان أن يتذوّق في هذه البيوت “الأسى الموجع للأشياء في كل واحد من فصول السنة”.
ومن المؤكد بحسب رأيه، أن شعراء الهايكو القدماء كانوا يستوحون قصائدهم من هذه الأماكن. لذلك يمكن القول إن المعمار الياباني الأصيل بلغ قمة بهائه في “بيوت الراحة”. وهذا المعمار يبتكر الجمال بواسطة الظل حتى في الأماكن التي لا قيمة لها، متجنبا الضوء المبهر الذي تتميّز به الحضارة الغربية. ويقول تانيزاكي “الجمال ليس مادّة في ذاته، لكنه رسم للظلال، ولعبة بين النور والظل ناتجة عن تجاور بين مواد مختلفة. وكما هو الحال بالنسبة لجوهرة ترسل لمعانا عندما تكون في العتمة، إلاّ أنها تفقد هذا اللمعان، وكامل فتنتها كجوهرة ثمينة حين تكون معروضة في ضوء النهار، فإن الجمال يفقد أيضا وجوده إذا ما نحن ألغينا تأثيرات الظل”.
ويبرز تانيزاكي جمالية الظل في المطاعم، وفي البيوت القديمة، وفي البرنيق الصيني، وفي القناديل التي ترسل نورا خافتا، وفي خفّة الأشياء غير المحسوسة، وفي ارتعاشة الشاي في قدح من خزف، وفي همس القصب في الريح، وفي أجساد النساء، وفي الانحناءة الغامضة لجفن، وفي شبح ممثل على الركح في مسرح الظل.
وفي حين يجهد الغربيون أنفسهم للبحث عن المزيد من الإضاءة، يجد أهل الشرق في العتمة ما يريحهم، ويثري أحلامهم، ويبهج نفوسهم، ويمنحهم الهدوء والسكينة الروحية التي يفتقر إليها الغربيون.
ويروي تانيزاكي أنه ذهب ذات مرة إلى معبد “سوما” ليتأمل بهاء القمر عند اكتماله على مركب في البحيرة المحاذية للمعبد. عند وصوله إلى هناك، عاين وجود شرائط من الضوء الكهربائي، مختلفة الألوان معلقة على ضفة البحيرة مفسدة المشهد الساحر الذي يضفيه القمر على ذلك المكان. لذا فضل تانيزاكي أن يغادر في الحين قائلا إن المبالغة في الإضاءة أفسدت ذوق اليابانيين، وأفقدتهم الإحساس بالمعاني الحقيقية لحضارتهم.
وفي النهاية يشير تانيزاكي إلى أن هدفه من تأليف كتاب “مديح الظل” هو طرح السؤال التالي، هل بإمكان الآداب والفنون جبر الأضرار التي لحقت بالحضارة اليابانية جراء تقليدها الأعمى للحضارة الغربية. مجيبا على هذا السؤال يكتب تانيزاكي قائلا “بالنسبة لي، أودّ أن أسعى في مجال الأدب على الأقل، إلى إحياء عالم الظل هذا الذي نحن بصدد فقدانه. وأرغب في أن أوسع إفريز هذا الصّرح الذي يسمى ‘أدب’، وأن أنشر ظلالا على جدرانه، وأن أغرق في العتمة الخفيفة ما هو مرئي أكثر من اللزوم، وأن أعرّيه من كل زينة غير مجدية”.
صحيفة العرب