يمثل الشاعر والروائي إبراهيم نصر الله، الحائز الجائزة العالمية للرواية العربية «البوكر» للعام 2018 عن روايته «حرب الكلب الثانية»، حالة متقدمة في الإبداع العربي عموماً والفلسطيني على نحو خاص، ولعل سرّ تميزه يعود لظاهرتين أساسيتين في تجربته الكتابية المتفردة، الأولى: تبنّيه لمشروع الملهاة الفلسطينية الذي أطلقه عام 1985، وهو ملحمة روائية درامية تاريخية، متوازية مع مشروعه الروائي «الشرفات»، وضمّ هذا المشروع حتى الآن 11 رواية، كان آخرها «ثلاثية الأجراس»، ترجمت بعضها إلى الانجليزية والإيطالية والتركية، والثاني: أنّه كاتب مستشرف، تقاطعت بعض أعماله مع ما يحدث هذه الأيام، كما في روايتيه «حارس المدينة الضائعة» و«الكلب الثانية».
* بداية كيف تقرأ المشهد الأدبي في زمن كورونا؟
– من الصعب الحديث عن واقع يتشكّل، وإن كانت هناك بعض العلامات التي تنبئ بأن هناك حمّى كتابية حول ما يعاني منه العالم، حتى أن هناك كتبًا صدرت في أوروبا عن كورونا، وروايات أُعلِن عنها في وسائل التواصل الاجتماعي، وسواها. وهناك يوميات وقصص قصيرة، وهناك من يريد أن يُقال إنه أصدر أول رواية عن كورونا، في الحقيقة لن يكون هذا فخرا، الإنجاز الكبير يقوم في من سيكتب أفضل رواية عن هذا العدو الخفي الذي تعانيه البشرية، نحن لسنا في سباق مع كورونا لأنه سبقنا، ولسنا في مسابقة بهذه السذاجة، الأمر الأهم هو ما الذي سنراه، أو ما هي رؤيانا لهذه الجائحة التي آمل أن تصبح خلفنا.
* نشرت العام الماضي (ثلاثية الأجراس) التي قوبلت بحفاوة كبيرة على مستوى الدراسات والندوات التي أقيمت حولها، ما هي هواجس هذا العمل الكبير على المستويين الإنساني والفني؟
– بدأت العمل على هذه الثلاثية عام 1990، لم تكن فكرة وجود ثلاثية قد خطرت في ذلك الحين، كنت أفكر برواية واحدة طويلة، لكن الفكرة تطورت مع استمرار التحضير لها، كعمل يغطي قرنا من الزمان تقريبا، هو القرن العشرين. كنت أريد أن أقدم اقتراحاً فنياً أميناً لفكرة «الملهاة الفلسطينية» التي تندرج الثلاثية فيها الأعمال المستقلة بشخصياتها وفنيتها، ولذا رأيت أن تكون كل رواية فيها مستقلة عن الأخرى، ولكن هناك خيطا بينها، كعمل كبير، أو لنقل كعمل مركزي في تجربتي. كنت أترقّب ردود الفعل حوله، نقدياً وقرائياً، ويمكنني القول الآن بعد مرور عام على صدورها، إنها حققت الكثير من الحضور، فقد صدرت في أربع طبعات، وهذا إنجاز مهم لعمل طويل نسبياً. أما على المستوى الإنساني، الوطني، فهي ثلاثية عن الموسيقى والحب والحياة المدينية، والتصوير والغناء، في فلسطين، كما أنها جاءت في وقتها في ظنّي، لأنها رواية عن المحو، محو الذاكرة ومحو المكان والتاريخ الذي تتعرض له القضية، ولعل العام الماضي وهذا العام شهدا الهجمة الأكبر على فلسطين في هذا السياق.
تحقق الرؤية
* في ظل ما يحدث عالمياً، وأعني وباء كورونا، نُشرت دراسات، وانشغلت وسائل التواصل الاجتماعي بروايتيك، «حارس المدينة الضائعة» و«حرب الكلب الثانية»، ماذا تقول وأنت ترى رؤاك تتحقق؟
* أحياناً أخشى أن تتحقق رؤاي، لأننا ككتاب نكتب كي نحذر، لا لكي نثبت أن العالم على خطأ ونحن على صواب. ولكن، وحين يتحقق ما انشغلت به الرواية، فإن ذلك يعني أن الناس لم تسمع التحذير. الآن أرى إنهم يقدرونه، إلا أن الأروع هو لو أنهم أخذوا به في الوقت الملائم لكي نتفادى وقوع الشر. حارس المدينة كُتبت بين عامي 1996 و1997، ونشرت بعد عام، وتوالت طبعاتها، إنها تتحدث عن مدن العالم الخالية من عمان إلى بكين إلى لندن وباريس ومدريد ونيويورك، وبالتحديد في عام 2020. حين يقول لي أحد الأصدقاء، اليوم، ماذا ستكتب عما نعيشه؟ أقول له إنني لن أستطيع كتابة شيء أفضل مما كتبت في ذلك الزمان، لست فرحاً بهذا، بل حزين، لأن الكاتب لا يسعى لتحقيق نصر على العالم، يسعى لأن ينقذ العالم، تقاتل العالم كي ينتصر، وهذا ما كتبتُه في قصيدة اسمها «الطائر».
والأمر كذلك قائم في «حرب الكلب الثانية» فالناس الذين رأوها متشائمة يعيدون قراءتها الآن وبعضهم يعتذر للرواية، لأنهم أدركوا أن هناك من فهمها أكثر منهم عندما صدرت، بعيدا عن ثنائية الأدب السعيد والأدب الشقيّ، صحيح أن «حرب الكلب الثانية» لا تتحدث عن كورونا بالذات، لكنها تتحدث عما هو أخطر، تتحدث عن كيف يقتل المتشابهون بعضهم بعضا، وهذا نراه اليوم في أوروبا، حين تُركت إيطاليا وحيدة، ويمكن القول إن أشباهها عملوا على قتلها، كما أن الرواية تتحدث عن وباء التنفس، حيث الناس يتساقطون من دون أن يجرؤ أحد على مدّ يد العون لهم، وتتحدّث عن إغلاق حدود البلاد والمدن ومنع السيارات من التحرك وحظر التجول في العالم ونزول الجيوش إلى الشوارع، والاكتفاء بالسير على الأقدام لقضاء الحاجات الضرورية، وتتحدث عن العدوى وسرعة انتقالها لمجرد الحديث مع أي شخص مصاب، تتحدث عن السعال الذي يهز البيوت والشوارع وانتشاره عبر القارات. الآن هناك قراءات مختلفة للروايتين، حتى من قِبل من كتبوا عنهما حين صدرتا، وأظن أن هذه القراءات ستتسع مستقبلاً، وإن كان هناك شيء واحد يمكن أن أقول إنني راضٍ عنه، فهو أنهما كُتِبتا قبل هذا الوباء، ولو لم أكتبهما في الماضي لما تجرأتُ أن أكتبهما الآن أو في المستقبل، فوصف الواقع اليوم يبدو لي أمراً باهتاً.
* هل هناك مشروع كتابي تعمل عليه الآن في فترة العزلة؟
* هناك رواية خيالية قصيرة، لكل الأعمار، أنجزتها، وهي مستوحاة من أحاديث أمي التي رحلت، وهي التجربة الأولى لي في الذهاب إلى المتخيل المطلق، وقد تفرعت من رواية عن طفولتي، وطالت بحيث رأيت أن تكون مستقلة عنها، لكن الرواية الأساس، عن تجربة الطفولة وما بعدها، فيها الكثير مما لم تقله الطيور، وأعني رواية «طيور الحذر». سيكون عملاً غريباً، وأظن أنني سأترك للقارئ الحرية كاملة لتأمله، بعد صدوره، ولن أتحدث عنه، فالحديث عن مكوناته سيبقى سرًّا.
جريدة الاتحاد