الناقد شاكر عبدالحميد يكشف عن عدم شعوره بالراحة والرضا عندما يرى مجموعة من المثقفين يجلسون في عزلتهم على مواقع التواصل كأنهم فرغوا من الحساب.
يقدم الناقد المصري شاكر عبدالحميد رؤية آنية ومستقبلية تستقرئ تساؤلات الواقع اليوم انطلاقا من التجارب والأحداث التي مرت بها البشرية من قبل، مطالبا الكتاب والمثقفين باليقظة والمشاركة الجادة بعيدا عن بوستات وتويتات مواقع التواصل الاجتماعي.
يقول عبدالحميد “أصابت جائحة كورونا البشر بصدمة كبيرة، فجعلتهم ينتبهون من غفلتهم، ويراجعون الكثير من مسلماتهم. لم يعد كل شيء كما كان ينبغي له أن يكون. تم إغلاق المطارات والحدود والجامعات والمدارس ودور العبادة والمقاهي، كما تم إغلاق المؤسسات الثقافية كالمتاحف والمسارح ودور السينما ودور الأوبرا وأماكن عقد الندوات، وتم إلغاء معظم إن لم يكن كل الفعاليات الثقافية: معارض الكتب والندوات والمؤتمرات وحفلات التوقيع وإعلان الجوائز، وتوقف إصدار الكثير من الصحف الورقية، وهكذا بعد أن ضاق العالم بها، أو إنه قد أصبح مصدرا للتهديد والخوف والموت، بعد أن كان مصدرا للبهجة والأشواق والاستعراض والتعبير عن الذات. وهرب البشر من بعضهم البعض فتجنبوا التلامس باليد والقبلات، وصار سماع صوت سعال أو كحة شديدة أو عطسة مفاجئة سببا للفزع والخوف والبعد. صار العالم موحشا وغريبا ومحاطا بكافة احتمالات الانهيار والفناء. حالات من الركود والكساد الاقتصادي، وبطالة متزايدة وخوف مما قد تحمله هذه الأيام من مخاوف وصدمات“.
الثقافة بعد الوباء
يتساءل عبد الحميد أين دور المثقف هنا؟ ويتابع “هو أولا إنسان يعاني ما يعانيه البشر كافة، وربما كانت معاناة بعض المثقفين أشد وأكثر عمقا من معاناة الكثيرين من البشر، ربما لأنهم أكثر قدرة على النفاذ إلى عمق الأحداث وعلى استشفاف الدلالات الجلية والاحتمالات الخفية لما يحدث في العالم الآن، هكذا بدأت مؤسسات بحثية وعلمية وصحف كبرى تستكشف وتتساءل وتطلب تحليلات بعض المثقفين والمفكرين لما يمر به العالم الآن من أحداث وكذلك تصوراتهم وتوقعاتهم لما سيكون عليه العالم بعد انتهاء هذا الوباء أو تراجعه أو كمونه”.
ويضيف “إنني أميل إلى هذا التفسير الأخير، أن هذا الفايروس سوف يكمن ثم يعاود الظهور مرة أخرى في أوقات متقاربة، قد تكون متوقعة أو غير متوقعة. لقد حدث ذلك لأوبئة وطواعين كثيرة سابقة، وتمثيلا لا حصرا فقد حدث ذلك بالنسبة لما سمي بـ:طاعون جستنيان، أصاب الإمبراطورية البيزنطية (الرومانية الشرقية) وخاصة عاصمتها القسطنطينية في مقتل بين عامي 541 و542 ميلاديا، لقد ظل هذا الوباء يظهر ويختفي حتى عام 750 ميلاديا، ويقال إنه قد ظهر أولا في منطقة الفرما “بورسعيد الآن” ثم انتشر منها داخل مصر ثم إلى فلسطين ثم إلى أوروبا وخاصة إيطاليا فأهلك معظم سكان أوروبا وحدث الأمر نفسه بالنسبة إلى طاعون الموت الأسود الذي حدث بين عامي 1347 و1352 لكنه استمر يختفي ويكمن ثم يعود إلى الظهور ربما حتى عام 1720”.
ويتابع “بشكل عام فقد ترتب على الوباء الأول طاعون جستنيان، مجيء العصور المظلمة التي استمرت حتى عصر النهضة الذي بدأ في القرن الخامس عشر وفي إيطاليا أيضا، أما الوباء الثاني فكان تأثيره مغايرا حيث مهد الطريق لسقوط القسطنطينية على يد محمد الثاني وهروب الكثير من المفكرين والعلماء منها إلى إيطاليا، ومع عوامل أخرى بدأ عصر النهضة بتجلياته المختلفة”.
ويواصل عبدالحميد “لماذا أتطرق إلى هذه الاستطرادات، لأني أريد أن أقول إن الثقافة بعد هذا الوباء الذي نعيش في ظله لن تكون كما كانت قبله، وتمثيلا لا حصرا، إنه لم يعد من الممكن أن تستمر الآليات الموجودة في كثير من الدول العربية، والتي تنظر إلى الثقافة على أنها نوع من الرفاهية أو الترفيه أو التسلية، بل إن الثقافة ينبغي أن تكون إحدى الوسائل الأساسية في صياغة وعي ووجدان وسلوك الناس، وكذلك طرائق حياتهم ووسائل تفاعلاتهم وإنتاجهم، إنها ينبغي أن تكون نابعة من أساليب إبداعية جديدة ومفيدة تتخطى مجرد النظر إليها على أنها تتجسد فقط في رواية أو ديوان شعر أو لوحة فنية أو مقطوعة موسيقية أو فيلم أو مسرحية، إلخ.”.
ويؤكد أن “الثقافة ينبغي أن تكون أسلوب حياة لكل البشر، بمعنى أن حاكم أي دولة ينبغي أن يكون مثقفا، وكيف سيحدث ذلك؟ لا أعرف، ولكني أعود هنا ربما إلى ما كان ينادي به سان سيمون بعد سنوات من زوال الأنظمة التقليدية الأرستقراطية القديمة في أوروبا من أن المجتمع ينبغي أن يحكمه العباقرة من العلماء والفنانين والمفكرين، كما أنه حذر كذلك من بيدهم السلطة والاقتصاد من إعاقة سعي هؤلاء العباقرة من الوصول إلى السلطة والمكانة العليا والتسيير لشؤون المجتمع. وقال إن هذه الإعاقة قد تؤدي إلى صراعات اجتماعية شديدة وإلى تبدد واستبعاد مؤكد للطبقات الحاكمة، كما وقع في فرنسا منذ عام 1879”.
ويضيف “ما أريد قوله هنا هو أن على المثقفين أن يحذروا من استمرار هذه الهيمنة الموجودة لأقليات عسكرية أو حزبية استبدادية بليدة فشلت في تحقيق التنمية لبلدانها وبددت ثرواتها، وإنه ينبغي أن يكون هناك حضور أكثر في رسم سياسات البلدان المتقدمة والنامية أيضا لعلماء الاقتصاد والسياسة وعلماء النفس والاجتماع والفلاسفة والمبدعين من الروائيين والشعراء وكل من يستطيع أن يكون متجردا وهو يقدم أفكاره من أجل الصالح العام ومنفعة الناس”.
الفلسفة والأدب
يكشف عبدالحميد عن عدم شعوره بالراحة والرضا “عندما أرى الكثير من المثقفين المصريين يجلسون في عزلتهم ليل نهار على مواقع التواصل الاجتماعي يكتبون البوستات ويسجلون فيديوهات مصورة، ويعلقون على كل شيء وكأنهم فرغوا من الحساب، كما كان يقول ابن خلدون عن حال المصريين، أنا لا ألوم أحدا وليس من حقي أن أتدخل في كيفية قضاء كل امرئ لوقته، ولكن أعتقد أن للمثقف دورا أكبر يتجاوز هذا الأمر. عليه أن يفكر في واقعه وفي وطنه وفي الآخرين، ويفكر كذلك في الكيفية التي يمكن أن يفيدهم بها، وليست الفائدة هنا بالضرورة فائدة مادية، قد تكون فكرة جديدة مفيدة أو كتابا قرأه أو يقرأه أو يقوم بترجمته أو رأيا قرأه هنا أو هناك، وعليه ألا يزيف وعيه وألا يكون منافقا، وأن يتأمل ذاته وحياته وأحوال العالم”.
ويتابع الناقد “لن يعود أي شيء بعد هذا الطوفان الوبائي كما كان قبله، هل سنستمر نفكر بالطرائق السابقة ونريد أن نصل إلى نتائج مختلفة؟ لقد كان آينشتاين يصف هذا الأمر بالغباء، والغباء أول خطوة في طريق الفناء، وذلك لأنه يجعلنا غير قادرين على التكيف مع هذه البيئة المتغيرة والعالم المتغير بطرائق إبداعية جديدة أو مفيدة، قل لي كم فكرة جديدة مفيدة قدمها كتاب مصر أو علماؤها أو مفكروها، خلال هذا الشهر الماضي منذ قدوم هذه الجائحة، وأنا لا أعفي نفسي من الإجابة السالبة على هذا السؤال، لم نقدم شيئا، وأفكار الإغلاق والانغلاق كانت موجودة دائما في تواريخ الأوبئة، انظر تمثيلا لا حصرا، ما فعله محمد علي عندما أصاب وباء الكوليرا الأرمن المصرية في القرن التاسع عشر”.
المثقف هو أولا إنسان يعاني ما يعانيه البشر كافة، وربما كانت معاناة بعض المثقفين أشد من الكثيرين
ويعتقد عبدالحميد أن “الجانب الأكبر الذي سيتغير في الثقافة بعد هذه الأزمة سيتجلى في تراجع كبير في الدور النسبي الموجود للمؤسسات الثقافية الرسمية والحضور الأكبر أيضا للمؤسسات المستقلة: دور النشر، الفرق الموسيقية والمسرحية، قاعات العرض، المؤسسات البحثية، الصحف المستقلة، ظهور أحزاب جديدة يقودها مثقفون، وهناك كذلك مراجعة لدور هذه المؤسسات وما قد أسهمت به في ظل هذه الأزمة وخاصة مع تراجع دور الحضور الفيزيقي للأفراد في حالات تفاعل فعلية واقعية”.
ويتابع الناقد “كما كان يحدث من قبل، وتزايد واضح أيضا في الفعاليات الافتراضية، المؤتمرات والندوات والمناقشات وعمليات التسويق الإلكتروني للكتب واللوحات والدراسات سوف يزداد حضور ثقافة الأفكار والرؤى والتصورات الجديدة ويزداد حضور المفكرين الاقتصاديين والسياسيين والاجتماعيين والفلاسفة ويتراجع دور الأدباء والنقاد، وعلماء التربية، سوف يزداد انكشاف الكثير من المؤسسات الرسمية الثقافية والتعليمية والسياسية والاقتصادية، وسوف يدرك الناس، بل إنهم قد أدركوا مقدار الخواء والموت الذي يحيط بهذه المؤسسات. سوف تسقط سرديات كبرى في العالم فكرة التقدم العلمي المتواصل، والنيوليبرالية المتوحشة، والعولمة الموجهة من الغرب إلى العالم، والحكومات العسكرية والمنصاعة لشروط صندوق النقد الدولي، وسوف تنشأ سرديات جديدة يدور معظمها حول العلماء والأطباء، وحول عالم جديد سيكون أقل توحشا ووحشة، أو هذا على الأقل ما أرجوه وأتمناه في عالم لم يعد آمنا أبدا ولا أليفا أبدا“.
صحيفة العرب