لو أنّ طه حسين أخذ بهذه النصيحة، ونأى بنفسه عن تلك التي اسمها الفلسفة، لما كان طه حسين الذي نعرفه اليوم، العقل الذي أحدث نقلة في الأدب والفكر العربيين، وفي منهج قراءة التاريخ، وسنظل دائماً في حاجة إلى العودة إليه، لننهل من فكره، ونتعلم من بصيرته، لأنه لم يكن كتب لزمنه فقط، إنما للمستقبل.
الإشارة إلى طه حسين هنا ليست من باب تحصيل الحاصل. بالفعل، فإن هذه النصيحة وُجهت إلى طه حسين، لا من أحد المشايخ الذين تتلمذ على أياديهم قبل أن يسافر إلى فرنسا، ويتعلم لغتها، ويتمثل منجزها الحضاري والثقافي، وإنما من الأمير فؤاد شخصياً، الذي قصده الشاب الضرير طه، الذي كان يومها أول خريج في الجامعة المصرية عام 1914، رفقة أحمد شفيق باشا، رئيس الديوان الخديوي، الذي كان، في الآن نفسه، وكيل الجامعة المصرية.
اللقاء بين الخريج الجامعي طه، والأمير فؤاد، تمّ في قصر الأخير في الإسكندرية، كما روى ذلك الكاتب رشاد كامل في مقال له، قبل أشهر، في مجلة «صباح الخير» المصرية، تناول فيه الحكاية بالتفصيل. اللقاء كان مرتباً من إدارة الجامعة على ما يبدو، التي أرادت تقديم خريجها الأول الذي تنوي ابتعاثه إلى فرنسا للدراسة، لكنها بحاجة إلى ما يشبه الموافقة من الديوان الخديوي.
ولم يكن هيّناً على طه حسين، الفتى الفقير، الضرير، الذهاب إلى تلك المقابلة التي تهيّب منها كثيراً وطويلاً: كيف سيدخل القصر؟ وكيف سيقابل الأمير؟ وكيف سيتكلم معه، أو يرّد على أي سؤال يوجهه له؟ لكنه قبل أن يسافر إلى الإسكندرية قابل أستاذه المستنير أحمد لطفي السيد، الذي شجعه وشدّ من أزره، قائلاً له: عليك ألا تنسى أنك ما زلت في بداية الطريق.
فيما بعد، حكى طه حسين كل ذلك في سيرته الذاتية: «الأيام». تبدد كل القلق الذي كان عليه حين قابله الأمير بترحاب، وأمسك بيده، وأجلسه على أريكة، وجلس بجانبه. هنأه بتخرجه، متمنياً له التوفيق في حياته القادمة. وهنا قال الفتى، بعد أن اطمأن إلى ترحيب الأمير: أريد أن أذهب إلى فرنسا لأدرس الفلسفة، أو التاريخ.
هنا أتى قول الأمير الصاعق للفتى: «إياك والفلسفة، فإنها تفسد العقول». ووسط ارتباك طه حسين واصل الأمير: «بل هي تفسد القلوب أيضاً». وأسقط في يد الفتى الطموح، ولم يعرف بماذا يرد، لكن الأمير وضع يده على ركبة طه، وهو يطمئنه: ستسافر إلى فرنسا، ولكن لا تدرس الفلسفة. عليك بالتاريخ.
جريدة الخليج