حدث هذا قبل 68 عاماً، عام 1951 على وجه التحديد. في صيف ذلك العام، في شهر أغسطس منه، زار المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، الفاتيكان ضمن جولة شملت عدداً من الدول، برفقة شقيقه الأكبر المغفور له الشيخ شخبوط بن سلطان آل نهيان، وعدد من المرافقين.
سافر الوفد من أبوظبي إلى البحرين، ثم استقل الطائرة من هناك إلى باريس، ومر بكل من إيطاليا وتركيا ومصر ولبنان.
صور تلك الرحلة تم الكشف عنها ضمن المجموعة الشخصية لعائلة لبنانية فرنسية، هي عائلة فيكتور هاشم. هذه الزيارة كانت الأولى التي يقوم بها الشيخ زايد، عليه رحمة الله، إلى أوروبا، وكان سببها المشاركة في جلسات تتعلق بحقول النفط البحرية التابعة لإمارة أبوظبي.
وأثناء وجود الوفد في فرنسا، قام بجولة سياحية اطلع خلالها على معالم باريس الشهيرة، وإلى جانب المتاحف والمتنزهات، زار الوفد عدداً من الكنائس، شملت «كاتدرائية نوتردام» الواقعة على ضفاف نهر السين.
كما قام الوفد بجولة في مدينة الفاتيكان، التقطت خلالها صورة له أمام نافورة الفاتيكان في ساحة «القديس بطرس» مع أحد أفراد الحرس السويسري البابوي، الذي يتولى حراسة بابا الكنيسة الكاثوليكية منذ تم إنشاؤه على يد البابا جوليوس الثاني قبل أكثر من 500 عام. هذه الصور تم الكشف عنها مؤخراً خلال معرض نظمته بعثة الاتحاد الأوروبي لدى دولة الإمارات العربية المتحدة.
زيارة المغفور له الشيخ زايد، عليه رحمة الله، لأوروبا في أوائل الخمسينيات من القرن الماضي، واهتمامه، طيب الله ثراه، بزيارة الفاتيكان في تلك الفترة، والتقاط الصور التذكارية في تلك الأماكن في ذلك الزمن الذي لم يكن أحد يتوقع فيه أن يكون لهذه البقعة من العالم شأن، هذه الزيارة تلقي الكثير من الأضواء على ما حدث بعدها بسنوات، حيث حمل الشيخ زايد، عليه رحمة الله، معه حلمه من هناك، وبدأت ترتسم في ذهنه صورة هذا الوطن قبل أعوام تجاوزت نصف القرن، فعمل على تحقيق هذا الحلم بعد أن أفاء الله على هذه الأرض بالثروة التي سخرها لبناء الإنسان والوطن، فأنشأ دولة عصرية يفخر بها أبناؤها، ويتطلع الجميع إلى مقاربة تجربتها، وأسس كياناً وحدوياً قوياً هو اليوم في مقدمة الدول التي تنافس على المراكز الأولى في المجالات كلها.
هذه الصورة التي مضى عليها ما يقرب من سبعة عقود، نستعيدها اليوم ودولة الإمارات تستقبل قداسة البابا فرنسيس على أرضها، في زيارة تاريخية هي الأولى التي يقوم بها بابا الكنيسة الكاثوليكية إلى أرض شبه الجزيرة العربية، حيث اختار قداسة البابا فرنسيس دولة الإمارات العربية المتحدة كي تكون محطته الأولى في هذه المنطقة، باعثاً رسالة قوية إلى العالم، تقول إن دولة الإمارات، التي أسسها زايد التسامح والمحبة، هي الخيار الأول والأنسب لمن يبحث عن أرض للتسامح والاعتدال والتعايش بين الأمم وأصحاب الديانات من كل الشعوب والأعراق، الذين يتوقون إلى السلام، وينبذون التطرف والعنف بكل أشكاله.
«يا شعب الإمارات العربية المتحدة الحبيب، السلام عليكم. سعيد لتمكني من زيارة بلدكم العزيز بعد أيام قليلة، تلك الأرض التي تسعى أن تكون نموذجاً للتعايش، وللأخوة الإنسانية، وللقاء بين مختلف الحضارات والثقافات، حيث يجد فيها الكثيرون مكاناً آمناً للعمل، وللعيش بحرية تحترم الاختلاف.
يسرني أن ألتقي شعباً يعيش الحاضر ونظره يتطلع إلى المستقبل، لقد صدق طيب الذكر الشيخ زايد مؤسس دولة الإمارات العربية المتحدة حين قال: إن الثروة الحقيقية ليست في الإمكانات المادية وحدها، وإنما الثروة الحقيقية للأمة تكمن في أفراد شعبها الذين يصنعون مستقبل أمتهم، الثروة الحقيقية هي ثروة الرجال».
بهذه الكلمات خاطب قداسة البابا فرنسيس شعب دولة الإمارات العربية المتحدة، في الرسالة المصورة التي وجهها قبل بدء زيارته للدولة. وهي كلمة تعبر عن الصورة التي عمل الشيخ زايد على رسمها وترسيخها في أذهان الجميع عن الدولة والشعب والوطن الذي حلم به قبل سبعة عقود، عندما وقف أمام نافورة الفاتيكان في ساحة «القديس بطرس» لالتقاط تلك الصورة التاريخية، ولم يكن ثمة من يعرف يومها شيئاً عن البلد الذي أتى منه هؤلاء الذين يرتدون الزي العربي التقليدي، ولا ماذا كانوا يفعلون أمام نافورة الفاتيكان، ولا بأي شيء كانوا يفكرون ويحلمون. وحده الشيخ زايد، عليه رحمة الله، رأى بنظرته البعيدة الثاقبة أن القيادة الروحية للكنيسة الكاثوليكية التي كان يقف أمام مقرها، ستأتي يوماً لزيارة بلده، وستذكر اسمه، وتستشهد بأقواله؟
إنها المعجزة في أصدق صورها؛ معجزة أن يتحول ذلك البلد الذي أتى منه أولئك العرب بزيهم التقليدي إلى دولة عصرية حديثة، ومعجزة أن يصبح ذلك البدوي، الذي كان يقف بينهم شامخاً، مؤسساً لهذه الدولة العصرية، وحكيماً يستشهد بأقواله بابا الكنيسة الكاثوليكية. إنه ليس المال من صنع هذه المعجزة، بل هم الرجال الذين صنعوها بإرادتهم وحكمتهم ونظرتهم البعيدة التي تتجاوز آفاق الواقع لتستقر على قمة جبل في المستقبل.
واليوم حين يحل قداسة البابا ضيفاً على أبناء زايد، ويؤكد الفاتيكان أن دولة الإمارات العربية المتحدة شريك استراتيجي لترسيخ السلام في العالم، نستعيد تلك الصورة المضيئة والملهمة للشيخ زايد، عليه رحمة الله، الذي كان عنواناً للتسامح والمحبة بين الشعوب والأديان والأمم، ونؤكد ترحيبنا بقداسة البابا ضيفاً عزيزاً على دولة الإمارات وقيادتها وشعبها والمقيمين على أرضها.
جريدة الاتحاد