بين ديناميت نوبل ولآلئ العويس

IMG_8992

حينما يرد اسم أيّة جائزة تكريمية في العلوموالآداب والفنون والاجتماع، دائمًا ما يحضر اسمالسويدي ألفريد نوبل وجائزته العالميةلـالسلام“! وقد أوصى قبل وفاته بإنشائها سنة١٨٩٥م (تكفيرًا) عن صناعة المتفجرات التي ورثهاعن أبيه وأسرته، ففي سن الرابعة والعشرين، شرعفي العديد من المشروعات التجارية مع عائلته،وأبرزها امتلاك شركة بوفورس، وهي شركة لإنتاجالحديد والصلب، التي طوّرها لتصبح شركةرئيسية لتصنيع المدافع والأسلحة الأخرى. وكاناستخدام اختراعه الديناميت أحد أسباب الدمارالبشري في حرب القرم، وغيرها من حروب لاحقةفي أوروبا.

كان نوبل قد انتقل مع أسرته، قبل اندلاعها، منستوكهولم إلى سانت بطرسبرغ في روسياالقيصريةمنتصف القرن التاسع عشروقدتفوّق في دراسة العلوم، خاصة الكيمياء، وإتقاناللغات

ويؤرّخ بعض كُتّاب سيرته أن وفاة شقيقه لودفيغفي باريس، كأنها تسببت خطأً في نشر العديد منالصحف نعيًا لألفريد نفسه، فأدانته بعضالصحف الفرنسية لاختراعه الديناميت، فوصفتهبـتاجر الموت، مما كان له الأثر في وصمه بتاجرحروب. فهل كان ذلك مدعاة إلى قراره بالعمل علىأن يتحلّى بسمعة حسنة بعد وفاته؟ وهو ما دفعهإلى التبرع بأغلب ثروته بعد وفاته لتأسيس جائزةتحمل اسمه.

@ بينما سلطان العويس، المولود بعد نوبل بقرابةربع قرن سنة ١٩٢٤، وافق أن تحمل جائزتهالثقافية اسمه كاملًا، بعد ضغط من أصدقائهومحبيه. وهو في سيرته، على النقيض من نوبل،حيث وُلد في أسرة تمثّلت فيها قيم الاحسانوالتكافل الاجتماعي والتربية والمعرفة والشعر،ممتهنة العمل في البحر بالغوص على اللؤلؤ فيأعماق الخليج العربي، حيث بدأ العمل مع والده(الطواش) وهو بين نهاية الصبا ومطالع الشباب،ماخرًا البحر إلى (هيرات)، أي مغاصات اللؤلؤيستلمها بدل أبيه.

وفي العشرين من عمره، ركب البحر بأهواله المرعبةوتقلباته العاصفة إلى الهند، التي كان(مهراجاتها) يتطلّعون إلى الحصول على لآلئالخليج العربي ومنتوجات نخيله ومزارعه. وفيالهند تجلّت صدمة سلطان الحضارية، حين كانتمحتلة من قبل بريطانيا، منبهرًا بمآثرهاالحضارية، وتخطيطها العمراني بشوارعهاالمضاءة ومدارسها الحديثة، متفاعلًا مع حياتهاالمدنية وحراكها الوطني ولغاتها المختلفة.

في حيدرآباد، انضم سلطان إلى مجتمعهاالتجاري العربي، ممن كان أفراده يمكثون فيهاوقتًا طويلًا لإدارة شؤونهم المعيشية وأعمالهمالاقتصادية. ومحافظةً على هويتهم القومية،أنشأوا فيها مطبعة عربية، صدرت منها كتبوصحف، تأثّر بها الكاتب والسياسي المصريحافظ وهبة، والشاعر السعودي الكويتي خالدالفرج، قبل سلطان العويس، وغيرهم ممن ارتادالهند وقتذاك.

هذه الصدمة الحضارية كانت إيجابية لدى صاحبهذه الجائزة، الذي يصرّ في أحاديثه لمن قابلهوكتب سيرته، أن جائزته وُلدت في حيدرآباد، حينماقرر أن ينشئ في مسقط رأسه قرية (الحيرة)،الواقعة بين الشارقة وعجمان، مدرسة يتلقى فيهاأبناؤها وسائل التربية والتعليم. فبدأها بعشرينطالبًا، تمكّن من إقناع أهاليهم بالانضمام إلىفصولها الابتدائية، عبر تعهّده بمساعدتهم ماليًاومعيشيًا، وهو ينتزع أبناءهم من العمل في البحروتربية الماشية في البر، إلى أتون مبادرتهالجريئةوهكذا سارت تجربة سلطان العويس فينقل أبناء قريته إلى آفاق التعليم الحديث، بإنشاءمدرسة أخرى في الشارقة بمئات الطلبة، موفّرًا لهماللوازم المدرسية، ومستقدمًا إليها المعلمين منالمملكة العربية السعودية والبحرين والكويت،والعراق فيما بعد، رغم امتناع نوري السعيد، رئيسوزرائه الخانع لعلاقة بلده مع بريطانيا المستعمرة.

لم يقف طموح العويس عند هذا الحد، بل إنه، معتوسع ثروته في تجارة اللؤلؤ وغيرها من أعمال،راح يبتعث بعض طلاب وطنه إلى جامعات القاهرةوبيروت، مع بناء الجسور، وإقامة معاهد مهنية،ومساعدات لجامعات داخل الإمارات وخارجها فيدول خليجية وعربية، يحدوه في ذلك إيمان دينيمستنير، ونَفَس قومي صادق.

هذا الاهتمام الواعي بقيمة العلم وأثر المعرفة فيتطور المجتمعات العربية لم يأتِ عفو الخاطر،وإنما جاء بسبب انتمائه إلى أسرة تعاطى بعضأبنائها الأدب والشعر، حيث كان الكتاب والمجلةوالصحيفة تأتيهموقتذاكمن القاهرة وبيروتمن وراء البحار، مستغرقًا وصولها إليهم شهورًاعددًا.

كما أن هذا العامل الثقافي هو الذي حفّز فيسلطان العويس السفر مبكرًا إلى بعض دولالشرق العربيوربما بسبب قراءاته لأدبائهموتأثره بشعرائهم، أصبح يكتب الشعر بلغةبسيطة، متحرّرة من أثقال الألفاظ البلاغية والصورالنمطية في الشعر العمودي، متمحورة قصائدهحول الغزل والوصف والحكمة والتغني بالوطن،واعيًا كل الوعي بدور رجال المال والأعمال فيخدمة المجتمع، والمساهمة في نشر الثقافة، مبادرًاإلى بناء برج من أربعة أدوار يضم مكتبة ومسرحًاوصالات معارض للفنون بخدماته الإدارية، داعمًاهذا الصرح الثقافي ببرج تجاري من تسعةطوابق، مخصص لاستثمار عوائده المالية فيتمويل المشروعات الثقافية والخيرية.

وكأنه، بمبادرته الرائدة في تعليم أبناء قريته، ودعمالمشروعات الثقافية والجامعية والتنموية داخلوطنه وخارجه، قد لمس التبخيس المُخِلّ لقيمةالثقافة والمعرفة والإبداع، وعدم تمكينها في العالمالعربي، بوصفها العامل المؤثر في نهضةالمجتمعات ووعي الشعوب. تقابلها صورة نقيضةفي مجتمعات أميركا وأوروبا، كشف عنها تقريرنشرته شركة «ويلث إكس» سنة ٢٠١٨، عن تتبّعرؤوس الأموال في العالم، في تبرعات الخيّرين منالأثرياء الذين تبلغ ثروة الواحد منهم ثلاثين مليوندولار، إذ منحواوقتهانحو ١٥٣ مليار دولارللأعمال الخيرية في العالم. ويؤكد التقرير أن ماقدّمه هؤلاء الأثرياء يعادل إجمالي إنفاق الحكومةالفيدرالية الأميركية على الرعاية الصحية والتعليموالطاقة، بينما لم يتجاوز ما قدّمه أثرياء منطقةالشرق الأوسط، بما فيهم أثرياء العالم العربي، ٥ في المائة من إجمالي تبرعات الأثرياء في العالم! مكدّسين ثرواتهم دون جني أي طائل معنوي، أوربح رمزي، أو احترام اجتماعي يخلّد ذكراهم.

من هنا، تكمن أهمية ما قدّمه عبد العزيز البابطينمن دعم للتعليم والثقافة والإبداع الشعري، وكذلكبعض من أثرياء العرب الخيّرين، أمثال: رجلالأعمال السعودي عبد المقصود خوجة، والكويتيةالدكتورة سعاد الصباح، والفلسطيني عبد المحسنالقطان، والفلسطيني الآخر عبد الحميد شومان،عبر مجالسهم، ومطبوعاتهم الثقافية، وجوائزهمالعلمية والأدبية.

 هؤلاء هم من أصبح يشملهم مصطلح «رأسالمال الثقافي»، وقد صكّه بيير بورديو، عالمالاجتماع والمنظّر الثقافي الفرنسي، على أنه«رأسمال رمزي» يحصل عليه الأفراد والنخبالثقافية أو المؤسسات. وهذا الرأسمال الرمزي أوالثقافي هو مجموع القدرات والمواهب المتميّزةللحائزين عليه من الأثرياء، بتفوقهم وحضورهم،إضافة إلى ما يحصلون عليه من مكاسب مادية. وبذلك، يحظون بالمكانة الاجتماعية داخل الحقلالثقافي، وبهذا يحصلون على رأسمال اجتماعي،يتمثل في مدى تأثير الثري المحسن في المجالالعام، وهو بهذا يحصل في نهاية المطاف علىرأسمال رمزي، من شهادات وأوسمة وألقاب، نظيرما اقتطعه من رأسماله المادي في دعم المشروعاتالتنموية المختلفة. يقول بيير بورديو في آخر فصلمن كتيّبه «الرمز والسلطة» المعنون بـ«الرأسمالالرمزي والطبقات الاجتماعية»: «أن تكون نبيلاًمعناه أن تُبذِر، محكومٌ عليك بالرفاه والبذخ، وقداحتدّ الميل إلى التبذير ردًا على الارتقاء الاجتماعيللأثرياء الجددفي قرون مضت، فما الذي يميّزالفارس الأصيل عن حديث النعمة؟ ذلك أن الثانيبخيل، أما الأول فهو نبيل؛ لأنه يصرف كل ما لديهبكامل الانشراح، وإن كان مثقلًا بالديون

@ هل لهذا، تبدّى سلطان العويس فارسًا شهمًانبيلًا أمام من أحبّها، وهو يقول:

إِلَيْكِ مَالِي فَمَا مَالِي سِوَى وَرَقٍ

لَنْ يُؤَثِّرَ الْمَالُ قَلْبًا قَدْ سَكَنْتِيهِ

لِي مِنْ عُيُونِكِ أَمْوَالٌ أُكَدِّسُهَا

وَمِنْ حَدِيثِكِ دُرٌّ لَسْتُ أُحْصِيهِ

بهذه الروحية، انطلقت جائزة سلطان العويسالثقافية عبر اتحاد الكتّاب والأدباء في دولةالإمارات العربية المتحدة سنة ١٩٨٧ بأمانتهاالعامة، مستقلة بمؤسستها الثقافية، كما أوصىنوبل قبل ذلك بقرن من الزمان، بأن يكون الناديالسويدي النرويجي منطلقًا لجائزته، مكرّسًا الجزءالأكبر من ثروته لقيام جائزة نوبل التي أصبحتعالميًا ملء السمع والبصرغير أن ما تفوّقت عليهجائزة هذا العربي الخليجي، هذا البدوي البحّار،هو معيارها الأكاديمي الموضوعي في اختيارالفائزين دونأدلجةأو انحيازوهو ما اعتادتعليه جائزة نوبل، التي لم يفز بها أحد من العربمثلًاسوى الروائي المصري الكبير نجيبمحفوظ، الذي كان يستحقها، بغير وصول ضوءموافقة ممن اهتم بأدبه (سان سوميخ اليهوديالعراقي)، إثر دعوة محفوظ المبكرة إلى التطبيعالثقافي مع إسرائيل.

هذه الأدلجة السياسية وخلفيتها (الديناميتية) هيالتي جعلت بعض من فاز بجائزة نوبل يرفضوناستلامها، ومن أبرزهم جورج برنارد شو، الأديبوالروائي الإيرلندي، وذلك سنة ١٩٢٥، محطًّا منقدرها وساخرًا من سيرة نوبل، وكذلك الفيلسوفوالأديب الفرنسي جان بول سارتر.

وكان فوز السياسي الفيتنامي لي دوك تو، أوائلالسبعينيات، مناصفة مع هنري كيسنجر وزيرالخارجية الأمريكي، محل استياء داخل لجنةاختيار الفائزين بها، ضد منحها عرّاب التفاوضلإخراج واشنطن من مأزق حربها المذلّة في فيتنام،حيث كرت السبحة فيما بعد، لتكريم الإسرائيليمناحيم بيغن، سفّاح دير ياسين، وغيره منالسياسيين الغربيين الذين خدموا المشروعاتالاستعمارية.

لذلك، تأتي جائزة سلطان العويس، منذ بدأت سنة١٩٩٠م حتى يومنا هذا، وكأنها ردٌّ عربي ساطعو(قوة ناعمة) على مخرجات جائزة نوبل المنحازة،وقد منحت لأبرز المفكرين والأدباء والشعراء العرب،ممن تبنّى قضايا الأمة والإنسانية والحق والعدلوالسلام، متمنيًا لو أن جائزة العويس فتحت البابلبعض الكتّاب العالميين ممن نصَر العرب والمسلمينوساند قضاياهم.