أن تقرأ الأدب

حسن مدن

كثيرون هم قراء الأدب، ممن يقرأون، أيضاً، في الفكر والفلسفة، لكن طبيعة العلاقة بين القارئ وما يقرأه تختلف في الحالين. القارئ لن يكون نفسه حين يقرأ الأدب، وبموازاته يقرأ كتاباً فكرياً أو فلسفياً أو كتاباً في التاريخ أو علم الاجتماع، علماً بأن الأدب العظيم ينطوي على الكثير من المعارف المصنفة في خانة العلوم الأخرى، لكنها لا تقدّم كوصفات فلسفية أو فكرية، وإنما تُبثّ في ثنايا الأدب، تتسرب إلى فكر القارئ ووعيه بسلاسة، دون أن يشعر، في حال كان الأدب الذي يقرأه أدباً ناجحاً، مستوفياً لشروط الأدب.

ويعطي مثالاً على ذلك أن رواية مثل رواية «الأبله» لديستوفسكي يمكن أن يقرأها ويفهمها عدد لا يحصى من القراء من حقب مختلفة ومن ثقافات مختلفة أيضاً، حين تترجم إلى لغات أهلها، لكن شرحاً فلسفياً لنفس الرواية، أو لنفس أغراضها، لن يكون مفهوماً إلا لقلة متمردة على هذا النوع من النصوص. الفلسفة بطبيعتها صارمة وقاطعة في أحكامها، فيما ميزة الأدب أنه يحتمل التأويلات المختلفة، وما يشدّ قارئاً في رواية ما، قد لا يكون هو نفسه الذي يشدّ قارئاً آخر.

لا ينزع ذلك عن الأدب كونه، هو الآخر، علماً شأن العلوم الإنسانية المختلفة عبر «فكر ومعرفة للعالم النفسي والاجتماعي الذي نسكنه». الأدب، أيضاً، يسعى إلى فهم التجربة الإنسانية وتحليها، وهذا ما حمل تودوروف على القول إن دانتي وسرفانتس يعلماننا مثلما يعلمنا أكبر علماء الاجتماع وعلماء النفس. ينسب إلى كارل ماركس قوله إنه وهو يؤلف مجلدات عمله الكبير «رأس المال» استفاد من أدب بلزاك في فهم المجتمع، وإغناء موضوع دراسته، ما يضاهي، بل ويزيد، عمّا استفاده من الدراسات والإحصاءات الاقتصادية. هذا أيضاً يصب في خانة المعنى الذي أتى عليه تودورف.
لو فكّر المهتمون بالقراءة في الأمر، ربما يصلون إلى خلاصة مفادها بأن رواية من الروايات، قرأوها في مرحلة من مراحل حياتهم، أحدثت ما يشبه الانقلاب في وعيهم، بأن فتحت لهم آفاقاً جديدة ما كانوا سيلجونها لولا تلك الرواية، أو الروايات، التي قرأوها، وهو أثر لم تحدثه في نفوسهم كتب في الاقتصاد والسياسة وعلم الاجتماع.
لا مفاضلة بين الأدب والعلوم الإنسانية الأخرى، وإنما هي دعوة إلى التبصر في الأثر الذي يتركه الأدب في الوعي، بما هو عليه من رهافة، وقدرة على النفاذ في عمق النفس الإنسانية.