دأب الكتّاب الصحافيون – وأنا منهم – على إعادة جمع مقالاتهم المنشورة في كتاب. وقد أبلغتني الدور التي نشرت كتبي أن هذا النوع لا يروج كثيراً، وإن كان في بعض الحالات يغطي التكاليف!
الزميل جهاد الزين، مسؤول صفحة «قضايا» في «النهار»، تناسى مقالاته المنشورة، رغم مكانتها في أوساط النُخب والمثقفين والسياسيين، وصرف جهداً خاصاً لكي يتحدث عن تجربته الصحافية في كتاب فائق المتعة الفكرية بعنوان «المهنة الآثمة»؛ (رياض الريس للكتب والنشر).
ليس المؤلف هنا أكثر أو أقل شجاعة وصراحة منه في «قضايا» «النهار»، وليس أقل أو أكثر غزارة واندفاعاً. وهي غزارة يتعب أحياناً في ضبطها، ونتعب نحن في متابعتها. ولكن في «المهنة الآثمة» يعطي الصحافي المتورط بموعد النشر، نفسه مزيداً من الوقت في التأمل والاستعادة. ولا يغير أحكامه السابقة، لكنه ينظر إلى ما عبر وما هو قائم حتى الآن، نظرة الرائي المحلّق فوق الأشياء، يسامحها ولو لم يغفر لمسارها الخاطئ. ولا يتردد لحظة واحدة في تنبيه قارئه بأنه «يساري سابق»، من دون أن يقول لنا إلى أي مربع فكري ترك اليسار. يخيل إليّ أن جهاد الزين لم يكن يوماً في اليسار كإطار آيديولوجي، ولا في القومية كحماس منغلق، ولا في الإطار شبه الإقطاعي الذي نشأ فيه… بل كان على الدوام مغرداً على إيقاعات لا تحتمل الالتزام الجدي. وما كتابه الجديد إلا شرح جديد هو أيضاً، للمسائل القديمة أو التي لا نزال نمر بها اليوم.
وإذ يعدّ نفسه أحد المسؤولين في «المهنة الآثمة»، يتجاهل، تواضعاً، أنه لم يكن مرة في عداد الصحافيين العاديين. حتى في مراحل النشأة والابتداء، كان جهاد الزين يتميز عن رفاقه ببعد سياسي وفكري حتى في العمل اليومي الرتيب. وكان يبدو لي من بعيد كأنه مشاغب دائم، أو محاضر دائم، عنده باستمرار قضية يريد إقناعك بها.
وعندما انتقل من يسار جريدة «السفير» إلى ليبرالية «النهار» حمل معه استقلالية لم يتغير فيها شيء. ولعل معظم المثقفين الكبار ينتهون مع استهلاك تلك الأكوام من الكتب، إلى العزلة في مساحة ليبرالية، صدمتها تجارب الآيديولوجيات وزمنها الحار.
«المهنة الآثمة» ليس كتاباً عن الصحافة، ولو أن «الإثم» يوحي بذلك. إنه وقفة عميقة مع مفكر سياسي غزير الثقافة، أعطى الصحافة اللبنانية نكهة النضوج المبكر.
نقلا عن جريدة الشرق الاوسط