الدكتور سلطان القاسمي يكتب: الخنجر المرهون (1-2)

الشيخ سلطان القاسمي

كان عمي المرحوم الشيخ سلطان بن صقر القاسمي، حاكم الشارقة، له مكتبة خاصة في حصن الشارقة، وأخرى في البيت الغربي. كان والدي دائماً يأخذني معه عند زياراته الخاصة لشقيقه، الشيخ سلطان بن صقر القاسمي، فكانا يلتقيان في المكتبة، أكانت في الحصن أم في البيت الغربي، وقد كان وضع المكتبتين يسمح بالدخول من جهة المجالس، ومن جهة المنزل الداخلي.

في ذات مرة، من شهر يونيو عام 1948م، اجتمع والدي مع شقيقه الشيخ سلطان بن صقر في المكتبة بالبيت الغربي، وفي المجلس التابع للمكتبة، حيث تتصل المكتبة من ناحية بغرفة نوم الشيخ سلطان بن صقر، ومن الناحية الأخرى بمجلس المكتبة الذي يتصل بالمجلس العام.

بينما كان عمي الشيخ سلطان بن صقر القاسمي يتحدث مع شقيقه، والدي، دخلت إلى المكتبة، فوجدت كتاباً مفتوحاً كان عمي يقرأ فيه، حاولت أن أقرأ من الصفحة المفتوحة حيث كان عمي يقرأ.

وقتها كان عمري تسع سنوات، وكنت أستطيع القراءة، وفجأة دخل عمي الشيخ سلطان بن صقر القاسمي، ليقول لي: هذا الكتاب لا يقرأ الصغار مثلك ما فيه، والدك سيخرج.

ما هي إلا أشهر عديدة، ومرض الشيخ سلطان بن صقر القاسمي، ونقل إلى بومبي في الهند في شهر مايو عام 1949م.

سلطان بن محمد القاسمي عام 1953

تقرر نقل الشيخ سلطان بن صقر القاسمي إلى لندن، في الثامن من شهر فبراير عام 1951م، لكن المنية وافته في الثالث والعشرين من شهر مارس عام 1951م.

استغرق نقل الجثمان من لندن إلى الشارقة مدة من الزمن، حيث يتطلب الأمر إجراءات ومدة للسفر. اجتمع ابنا المرحوم الشيخ سلطان بن صقر القاسمي، وهما سالم وعبدالله، وأخي عبد العزيز وبعض أصدقائهم، في مجلس المكتبة في البيت الغربي، يلعبون الورق.

أما أنا فقد دخلت إلى المكتبة وأخذت أقرأ في الكتب؛ كان عمري يومها اثنتي عشرة سنة، وأول كتاب بدأت أقرأ فيه كتاب الحيوان للجاحظ، وكان عمي الشيخ سلطان بن صقر القاسمي على حق عندما منعني من القراءة في ذلك الكتاب.

على مدى أسبوع كامل، وأنا أنقل أسماء الكتب ومؤلفيها بعد أن أحضرت كراسة ومحبرة وقلم غط، وقد استطعت أن أنقل جميع ما كان في تلك المكتبة.

معظم تلك الكتب تمّ شراؤها من مكتبة المؤيد بالبحرين. وقررت أن أؤسس مكتبة خاصة بي، وأشتري كل تلك الأعداد من الكتب.

في الثاني من شهر إبريل عام 1951م، وصل جثمان الفقيد الشيخ سلطان بن صقر القاسمي، ليوارى التراب في مقبرة الجبيل.

على مدى سنتين، وأنا أحاول أن أجمع الكتب لتكوين مكتبتي، لكني لم أجد من يقرضني مبالغ أستطيع أن أسددها عن ذلك القرض. فأخذت أستعير الكتب ممن كانت لديه، فمنهم عبد الواحد الخاجه، الموظف ببلدية الشارقة والتي تقع على امتداد السوق ومنه إلى الجنوب، حيث الدوائر الحكومية وهي: دائرة الجمارك والميناء ومديرها عبد الرحمن بن محمد المدفع، ومبنى الإدارة العامة للشؤون المالية والإدارية ومديرها أحمد بن محمد المدفع، وبلدية الشارقة ورئيسها الشيخ محمد بن سلطان بن صقر القاسمي، ومجلس الوزير إبراهيم بن محمد المدفع.

كان مسكن عبد الواحد الخاجه في شرقي البلد، والبلدية في غربها، وكان يمر بمقهى سرباز التي كنت أجلس بها، ومحمد بن صالح القرق الموظف في الوكالة البريطانية والذي كان يسكن في جزء من بيت السركال قبالة مقهى سرباز، والذي كان يمر بها يومياً ذهاباً وإياباً إلى عمله، وابن عمي الشيخ صقر بن حميد القاسمي، وذات مرة وجدته جالساً على كرسي طويل أمام بيته، وكان البيت على قارعة الطريق الآتي من المسجد والسوق، وإذا به يقرأ كتاباً وعنوانه: «لا أنام» لإحسان عبد القدوس، فطلبت منه أن يعيرني ذلك الكتاب، فتعلل بأنه يقرأ فيه، فقلت له: ليلة واحدة، فوافق.

في اليوم التالي كان الشيخ صقر بن حميد القاسمي يجلس أمام بيتهم فسلمته الكتاب، فنظر إليّ مستغرباً كيف أني قرأت ذلك الكتاب الضخم وسألني:

كيف انتهيت من قراءة الكتاب؟

فأجبته: الكتاب يقرأ من عنوانه.

كان ممن طلبت منهم قرضاً رجل يدعى أحمد بن إبراهيم الملا، كان قد أقام في بداية عام 1953م مقهى في مجلس بيت حسن بن عبد الرحمن المدفع، المُطل على السوق وخور الشارقة.

طلبت من أحمد بن إبراهيم الملا قرضاً من المال.

قال أحمد الملا: كم تريد؟

قلت: مئة روبية.

قال: اللهُ أكبر!!!، مئة روبية!!!، وأنا أبيع كوب الشاي، بآنة واحدة!!!، (الروبية تساوي 16 آنة).

قال أحمد الملا: ما الذي ستشتريه بهذا المبلغ؟

قلت: كتب.

الخنجر الذهبي المرهون

ثم عاد وقال: لا يوجد معي أيّ مبلغٍ من المال!!!، لكن زوجتي عندها المال. انتظرني هنا في المقهى، وسأذهب لأسألها.

كان أحمد الملا وزوجته وابنته يسكنون في منزلهم الملاصق لبيت حسن بن عبد الرحمن المدفع.

ما هي إلا دقائق معدودة وإذا بأحمد الملا قد عاد، يتمايل في مشيته.

بادرته قائلاً: بَشّر.

قال أحمد الملا: وافقت، لكنها تطلب رهناً.

قلت: مثل ماذا؟

قال أحمد الملا: ذهب.

سألت أحمد الملا: ما اسم زوجتك؟

قال: اسمها نصرة بنت محمد.

كتبت اسمها على أوراق كانت في جيبي، وأسرعت إلى بيتنا.

في شهر مايو عام 1953م، كنا نقيم في بيتنا بالشارقة في المبنى الصيفي منه ويقال له «الدهريز» وهي كلمة محرفة من كلمة «دهليز»، وكانت «الدهاريز» مبنية قبالة الجهة الشمالية حيث تهب الرياح الصيفية.

كان هناك «بارجيل» ملاصقٌ للدهريز، وكلمة بارجيل باللهجة المحلية هي كلمة محرفة من كلمة فارسية «بادجير» ومعناها لاقط الهواء، وكان يلقط الهواء من أربع جهات.

كثيرة تلك الكلمات، والتي دخلت إلى اللهجة المحلية مثل:

السرير: ويقال له شبرية، وهي محرفة من كلمة فارسية وهي «جهاربائي» ذات الأربعة أرجل.

شباك: ويقال له دريشة، وهي محرفة من كلمة فارسية وهي «دريجه»: الباب الصغير.

الخدم في بيتنا كثيرون من رجال ونساء وصبية. ومن الصبية سعيد الضابط وسعيد الأسود، وبرهوم صحن الأوتيل، وقد سمّي بذلك الاسم للتفرقة بينه وبين صبيّ آخر يدعى إبراهيم، لم أكن أتذكره هو وآخر يدعى حَمّود ولد منينة، حيث كبرا في السن، وأصبحا رجالاً، ولحقهما برهوم صحن الأوتيل.

جاء برهوم صحن الأوتيل إلى بيتنا في أحد أيام شهر مايو ظهراً، ومن أحد شبابيك «الدهريز»، وهي عديدة، لدخول الهواء إلى داخل الدار، أخذ برهوم صحن الأوتيل يحدث والدتي والتي قالت له: لا تروّح، تغدى هنا اليوم.

في ظهر «الدهريز»، كنت قد علقت خنجري الذهبي على وتد هناك، حتى إذا ما جاء الليل لاحظت والدتي أن الخنجر لا وجود له على الوتد، حينها سألتني والدتي قائلة: سلطان، أين خنجرك؟

قلت: عندي.

أعادت والدتي السؤال: عندك؟! أين عندك؟!

قلت: محفوظ.

قالت: أبداً… الخنجر سرقه برهوم صحن الأوتيل، أنا من الشباك لمحت عينه مسلطة على الخنجر… أكيد أنه هو الذي سرق الخنجر… أقول له: ستتغدى، ولما سألت عنه؛ قالوا: لم يتغدَ… سأخبر محمد (والدي) بذلك ليضربه… ويهدده بقطع يده.

أقسمت لوالدتي يميناً أن الخنجر عندي.

فلم تقتنع والدتي، بذلك، لكنها أخذت تردد في بالها: أين ذهب الخنجر؟

خرجت صباح اليوم التالي من بيتنا حاملاً خنجري الذهبي، والذي أخفيته عن والدتي طوال الليل، فقد لففته بغترة قديمة كانت لي، فلو ألحّت والدتي أكثر، لأخرجته لها، لكنني كنت خائفاً من أن تأخذه مني وتضعه في صندوق لها، وتقفل عليه.

في مقهى أحمد الملا، سلمت لأحمد الملا الخنجر الذهبي، والذي بدوره، حمله إلى زوجته وعاد بالمبلغ في كيس قماش.

في ركن من المقهى الخالي من الزبائن، أخذت أعدّ المبلغ… روبية… روبية، وأجعل منها أكواماً من الروبيات، كل عشر روبيات تمثل كومة من الروبيات، حتى بلغت عشر كومات.

خرجت من مقهى أحمد الملا، حاملاً كيس الروبيات، وأخذت طريقي في السوق، والذي يتجه إلى الشمال، لكن أهل الشارقة يقولون: ذاهبين إلى الشرق.

يبدأ سوق الشارقة من المسجد الجامع الكبير، حيث سوق الخضار واللحم والسمك، ومن ثمّ سوق الحدادين، وقبالة سوق الصفّارين، ثم سوق التمر حيث ندخل إلى سوق الشناصية، والمحال فيه عديدة حيث تباع هناك الحصر المصنوعة من السعف، وكذلك الحبال بأنواع مختلفة والملح.

بعد سوق الشناصية ندخل في ساحة محاطة بالدكاكين يقال لها: عرصة الفحم، حيث يباع الفحم، وخلفه المناخ حيث تبقى الجمال بعد إنزال الفحم، طوال اليوم، ثم ترحل.

وصلت في طريقي إلى دروازة سوق صقر، ويقال لها: الدروازة الغربية، والدروازة بالفارسية: الباب الكبير.

يمتد سوق صقر بمحاله المتعددة الأغراض حتى الدروازة الغربية، حيث نخرج منها لنشاهد بيت السركال، حيث كان بيت الوكالة البريطانية سابقاً، وقبالته مبنى من دور أرضي كتب على بابه: البنك البريطاني، حيث دخلت إليه، وقمت بترتيب تحويل مبلغ مئة روبية لصاحب مكتبة المؤيد بالمنام – البحرين.

الغرض: شراء كتب.

وأيّ كتب؟

قلت للموظف: ما عليك إلا أن تحول المبلغ للمكتبة.

في مساء ذلك اليوم، وبعد أن أخرجت الأوراق التي سجلت عليها كتب عمي الشيخ سلطان بن صقر القاسمي من مكتبته في البيت الغربي، أخذت أكتب رسالة لصاحب مكتبة المؤيد بالمنامة بالبحرين، أخبره فيها بأني حولت لحساب المكتبة مبلغ مئة روبية مقدماً، لشراء كتب حسب القائمة المرفقة مع الرسالة، وإذا بقي شيء من المبلغ فإني سأرسل له قائمة أخرى بالكتب المطلوبة.

عنواني:

سلطان بن محمد القاسمي

الشارقة – ساحل عُمان

كانت قائمة الكتب:

1- كتاب نهج البلاغة.

2- الشوقيات.

3- الحسن البصري.

4- عنتر بن شداد.

5- ألف ليلة وليلة.

6- جواهر الأدب في صناعة إنشاء العرب.

خرجت من بيتنا إلى محطة سيارات الأجرة، حيث تصل السيارات القادمة من دبي، ويصل أبو أحمد صاحب البريد، فسلمته الرسالة وبعض النقود قيمة الطوابع البريدية التي سيلصقها على ظرف الرسالة.

بعد بضعة أيام وصلت إليّ رزمة الكتب التي طلبتها من مكتبة المؤيد بالبحرين عن طريق مطار الشارقة، حيث أوصلها لي إبراهيم عسكر الموظف في مطار الشارقة، وهو المسؤول عن البريد القادم إلى مطار الشارقة، حيث كان ينقله إلى بريد دبي، لكنه عندما لاحظ اسمي أوصل رزمة الكتب إلى بيتنا.

للحديث بقية…

الصورة
1

 

الدكتور سلطان القاسمي يكتب: الخنجر المرهون (1-2) – جريدة الخليج