اختارت الهيئة العربية للمسرح الفنانة اللبنانية نضال الأشقر لتلقي رسالة اليوم العربي للمسرح والذي يصادف العاشر من يناير من كل عام، وفي تلك الرسالة تتجول في تاريخ وراهن المسرح وأدواره في التثقيف والتنوير والنهوض بالمجتمعات والتعبير عن آمال وطموحات الشعوب، كما تعرج إلى بعض العقبات التي تعترض طريق المسرحين، وتؤكد أن المسرح هو بقعة ضوء تفتح أذهان الناس على الحلم والخيال، لتقول في الختام إن المسرح هو الحقيقة الوحيدة في الحياة.
تقول نضال الأشقر في تلك الرسالة التي ستقرأها في افتتاح الدورة الـ 14 من مهرجان المسرح العربي في العاصمة العراقية بغداد: «إنه زمن التحولات والحصارات وحروب التصفية والإلغاء. وسط هذا كله، وسط هذه الفوضى العارمة، وسط كل هذا الدمار، وسط هذا القتل والفساد، ومع كل ما يجري من حولنا من تدمير متعمّد لمدننا التاريخية الرائعة ولإنساننا وتدمير أرضنا وبحرنا وساحلنا ومدارسنا وتاريخنا وثقافتنا وذاكرتنا، وسط هذا كله نقاوم ونستمر».
وأشارت في كلمتها إلى ازدهار المسرح اللبناني قبل عقود: «قبل الحرب الأهلية في لبنان، كانت بيروت مسرحاً كبيراً لأحلام النخبة من اللبنانيين والعرب وكانت عاصمة الخيال والمغامرة والحرية، وفي تلك الأجواء الرائعة خضنا تجربة محترف بيروت للمسرح التي كانت نواة ثقافية وفنية دينامية، رحنا من خلالها نبحث بحثاً نابضاً بالحياة عن شكل جديد ومضمون جديد للمسرح، عن مسرح حديث يشبهنا، يحمل هواجسنا وأمنياتنا، وحولنا تجمّع فنانون ورسامون، شعراء وكتّاب وصحفيون، رأوا في تجربتنا محاولة لا للتفتيش عن ذات مسرحية أصلية فحسب، بل عن ذات إنسانية تريد أن تولد، ساهمنا مع زملائنا الآخرين في المسرح اللبناني وفي الحياة الأدبية والثقافية اللبنانية في خلق تلك الرعشة الجميلة التي جعلت بيروت الستينات والسبعينات من القرن الماضي صفحة ذهبية فريدة وخالدة في كتاب تاريخ المنطقة».
وتابعت نضال الأشقر في كلمتها: «إن اﻹبداع وفرح اﻹبداع ونظرة اﻹبداع إلى الحياة والفن والكون، وانطلاقة اﻹبداع من الفكر النّير المنفتح الحرّ، هو الحدث الأهم الذي غيّر مجرى حياتي نحو حياة أفضل ونحو حرية واعية..والمبدع هو المحرّض الرؤيوي الذي يحرك المستنقعات ويحرّك المسلّمات القائمة. وهو الذي يخرج من الثابت إلى الأفق الوسيع البنّاء. هذه الوثبة هي التي تخرجنا من العادي إلى عالم الحلم المجّنح وإلى استمرارية الحياة المنتجة المغامرة».
وطرحت نضال مجموعة من الأسئلة: «كيف لنا -نحن المبدعين- أن نشاهد المجازر والأطفال والقتلى والعائلات المدمرة والبيوت التي سُطّحت على الأرض في فلسطين والعراق ولبنان وسوريا وليبيا والسودان، وألاّ نعبّر بأعمال مسرحية على ما كنا شهوداً عليه. ألسنا نحن مؤرخين من نوع آخر؟، ألسنا نحن مشاهدين ومسجلين للحاضر؟ ألسنا نحن ناقلين التراجيديا الإنسانية على المسرح كي تصل إلى قلوب الناس وعقولهم؟، ألسنا نحن من ينتزع الأقنعة عن كل وجه مزيف وعن كل قضية فاسدة؟».
وأضافت قائلة: «اليوم نحن في العراق، في بلاد ما بين النهرين، حيث كانت بابل وسومر وأكاد، وكانت نصوص الاحتفالات والصلوات والأعياد وكأنها مسرحٌ كبير. وكان جلجامش وإنكيدو، وكان أيضاً النص الحواري الأول الذي وصلنا وهو النص البابلي:«السيد والعبد». ثم كان الإغريق حيث انطلق المسرح».
وأشارت نضال في كلمتها إلى الدور الفعال للمسرح: «لكي يلعبَ المسرحُ دوراً فعالاً، يجب أن تكون هناك ورشة عمل كبيرة وخطة تنهض بالبلاد وتحولها إلى خلية نحل، حيث يعمل فيها المثقفون والفنانون والطلاب والأساتذة يداً بيد للنهوض بمجتمعاتهم وبيئتهم إلى عالم من البحث والدرس والتمحيص والتعبير الحرّ وصولاً إلى المسرح. لذلك يجب أن تكون هناك العشرات من المراكز الثقافية والمسارح والمكتبات العامة كي يصبح المسرحُ أداةً فعليةً وفاعلة في مجتمعاتنا. أما اليوم، فإن مدينة بيروت مثلاً تشهد إقفال مسارحها واحداً تلو الآخر».
لقد وجد المسرح اللبناني دائماً طرقاً ومحاولات جدية لإيجاد لغة مسرحية فعالة، والولوج بتجربته إلى العالم الفسيح.
المسرح هو من يعيد الإنسان إلى روحه وجذور وجدانه، هكذا تؤكد نضال الأشقر في كلمتها، وتتابع: «المسرح يربط الإنسان ربطاً سحرياً بأرضه ولغته وتاريخه ومستقبله، وهو في تكوينه يرفض كلّ ما يفرّق، ويجمعُ تحت سقفٍ واحدٍ، جمهوراً متعدد الانتماءات ويحرض على الحوارِ المثمرِ وعلى الفعل والتفاعل. لكن الحوار كما نريدهُ ونبتغيه لا يستقيم فعلياً بدون«احترام التعددية وكبح النوازع العدوانية عند الأفراد والأمم على السواء » كما قال سعدالله ونوس. وتحرير الرجل والمرأة من كل العادات الآسنة عبر السنين، المسرح فضاء للمقاومة الثقافية وللبقاء منصةً إبداعية فكرية وفلسفية وفنية».
وتلفت نضال الأشقر إلى أننا بحاجة إلى هذه المساحة اﻹبداعية الحرّة والانفتاح على الآخر، والتواصل فيما بيننا واحترام الاختلاف، وضمن هذه الرؤية يسكن هوسُ المبدعين الخلاقين وتوقهم إلى المعرفة، وهنا تكمن قوتهم في الانتقال بخفة بين الزوايا المضيئة والزوايا المعتمة وفي نقض الثابت والهامد، وفي الهدم المخلّص، ﻓﺈذا تخلى المبدعون عن كل ما يدين ويكشف ويصدم ويثير، إذا تخلوا عن إدانة الظلم وتعرية القهر ودعم العدالة، فإنهم يتخلون عن سلاحهم الأمضى.
وتختم نضال الأشقر كلمتها بالقول: «هكذا فهمت المسرح منذ بدأت العمل، وهكذا أواصله في مسرح المدينة الذي أسعى بالتعاون مع جميع الخيّرين والخلّاقين أن يكون نواة جديدة لأحلام ومحاولات جديدة، نسعى في إطارها إلى إيجاد لغة تطلقنا إلى عالم أردنا أن نغيّره فلم ننجح، ولكننا سنظل نحاول تغييره. ولن ندعهم يقضون على أحلامنا، تلك البقعة من الضوء التي يدخل إليها الناس ليفتحوا حلمهم وخيالهم ورؤاهم، ذلك الوطن ضمن كل وطن، تلك الحرية فوق جميع القيود، ذلك الجمال رغم كل بشاعة، هكذا نريد مسرحنا أن يكون، وإذا قيل: لا شيء في المسرح حقيقي ما دام هو هذا الحلم، نجيب، لذلك هو الحقيقة، ولعلها الحقيقة الوحيدة».
نضال الأشقر تلقي رسالة اليوم العربي للمسرح