يظل الأدب القيمة الأسمى في صون هوية الفرد والمجتمع، كونه البحر الشاسع الذي يستوعب تحولات اللغة البشرية وفضاءات التعبير عن الروح والنفس والوجدان والخيال. ومن يختطفُ وقتاً ليقرأ رواية أو كتاباً، فإنما يذهبُ ليترك لنفسه أن تُبحر في محيط من الصور والمشاهد التي يولدها العقل ليعيش صاحبها في متعة امتلاك العالم كله بين يديه. وما من شخص يتعاطى من الأدب المكتوب، إلا وتكون حصيلة وعيه مفتوحة على قبول التغيير والاختلاف والنظر إلى الوجود باعتباره خليطاً كونياً من المتناقضات والتشابهات. هناك من يكتشف مثلاً أن التاريخ يعيدُ نفسه باستمرار، وأن أحداثاً جرت وقائعها في الماضي، تعود وتظهر في الحاضر بنفس الوتيرة والشكل ليستنتج منها أن بعض البشر لا يستفيدون من دروس التاريخ، فيما تكون هناك أمم أخرى قد تعلّمت فعلاً من أخطاء ماضيها وتراها قد اتجهت للبناء وتأثيث المستقبل بالأفكار النيّرة.
يشمل الأدب، كل ما أنتجه الفكر الإنساني من إبداع وفلسفة ودراسات لواقع البشر منذ الملاحم الشعرية والأساطير القديمة وصولاً إلى إنتاجاتنا المعرفية اليوم. وهي كلها أنهار تصبُّ في نهر اللغة العظيم وتروي بحرها بالكتب والمؤلفات والحبر الذي ظل يسيلُ لآلاف السنين بغية الوصول إلى الحقيقة وتدوينها. مع ذلك، فإن من مهام الآداب أيضاً إعادة طرح الأسئلة باستمرار، وإعادة مراجعة ما تم تدوينه في الماضي وفحصه بالعين الناقدة. ظهرت مدارس جديدة لتفكيك النصوص وإعادة الكشف عن دلالاتها اللغوية وأثرها في السياقات اللغوية وأثر اللغة على المجتمع والفرد. وهناك من تمادى عميقاً، بغية الوصول إلى معرفة أثر الآداب في تكوين العادات والأفكار التي تحكم رؤية الإنسان لنفسه ولعلاقته بالوجود والعالم.
وبصورة ما، قام الأدب باختلاق مدارس النقد لتطبيقها على نفسه، وهي عمليه تكاملية في عمقها، وأصبح كل مشروع أدبي أو فكري، بحاجة إلى تعرضه لأدوات النقد ليصبح مشروعاً حقيقياً، وامتدت وظيفة النقد إلى درجة أن الأديب عليه أن يصبح هو نفسه الناقد الأول لعمله إن أراد أن يتطور على مستوى الكتابة والتأليف والتجديد الفني. وبالعكس، نرى أن غياب النقد سمح للظواهر السطحية في الآداب أن تبرز على حساب القيم الجمالية والفنية، إذ يؤدي ذلك إلى تدني الذائقة القرائية التي تقبل بالأعمال الاستهلاكية الركيكة لتتصدر أحياناً مبيعات بعض أنواع الكتب، وهذه ظاهرة تستشري في الكثير من مجتمعات اليوم.
روح الأدب
جريدة الاتحاد