لم يكن الشاعر الأول في التاريخ رجلاً عادياً، بل كان مكتشفاً للجمال. ولم تُكتب القصيدة الأولى في التاريخ أولاً على جدران الكهوف أو جذوع الأشجار، بل طُبعت في قلبٍ شغوفٍ برغبة اكتشاف العالم غير المرئي، العالم الأكبر الذي يتجاوز الحدود الواهية للمادة ويلغي فكرة البداية والنهاية ويجعل أفق الإنسان مطلقاً ولا نهائياً. ولذلك، ذهب الشاعر الأول في التاريخ لكتابة قصيدته الأولى على الماء، وظل يراقب كيف تختفي الكلمات سريعاً ويغرق معناها في الموجة الذائبة. ثم كتبها من جديد على رمل الشواطئ البكر، لكن سرعان ما جرف كلماتها المد وانحسر معناها في الغياب. وسيظل هذا الشاعر مجرباً فعل الكتابة في كل أرض وفي كل زمن. لا ليدوّن شيئاً، وإنما ليرصد فكرة ولادة الكلمة وموتها. وكيف يولدُ المعنى وكيف يموت. ثم اكتشف بالتدريج أن هناك معاني تقاوم الزوال فسماها «الحقيقة الأم»، وكان يقصد بها القصيدة التي سيظل البشر يكتبونها على مر التاريخ، القصيدة التي تتجاوز فكرة المكان والزمان وتنتمي لمطلق الشعر وحده.
هكذا نُدرك، أن الشاعر الأول في التاريخ هو الذي ينحازُ إلى جعل نصه الشعري حياً دافقاً ألقاً، تتراقص فيه الكلمات وكأنها وُلدت للتو وصارت لها حياةٌ أخرى جديدة. وبدلاً من أن يصف القمر بأنه «مصباح الذكريات المنسية» يشعلُ مليون قمرٍ في القصيدة ويضيء فجر الناس قبل أوانه. ثم يذهب ليكتب عن رجلٍ وامرأة تعاهدا على صيانة العالم، فتأسس بينهما شيءٌ اسمه الحب، وصار يكبر معهما كلما ركضا في مسعى الاكتشاف. ومن بحرٍ لبحر، ومن سراب إلى سراب، سيزرعان على جانبي الطريق آلاف الأشجار التي ستنبتُ على أغصانها أوراق القصائد. وكل طفلٍ مستقبلي سيأكل من هذه الشجرة، سيصاب بحمى الرغبة في الطيران وتحدي الجدار والسور وكلمة «لا».
اليوم، كل القصائد الحقيقية قليلة جداً، وبالكاد تشدّ طفلاً غارقاً في سهوة الفراغ. ومع ذلك، فهي تُكتبُ بصمت، ولا يدّعي أصحابها امتلاكهم لأي شيء سوى تلك الحقيقة الأولى التي اكتشفها الشاعر الأول في التاريخ. والقارئ الحذق، هو الذي لا ينجذب إلى صراخ المراثي العابرة، ولا تُغريه فذلكات اللعب على الكلمات وإيقاعات جرسها الصوتي. بل نراهُ يصبحُ مثل القارئ الأول في التاريخ، ذاك الذي اكتشف القصيدة الأولى وترك لكلماتها أن تتغلغل في نسيج روحه واختار أن يذوب في ترحالها نحو المطلق الشاسع والأبـدي.
الشاعر الأول
جريدة البيان