ذائعة الصيت العبارة الشهيرة التي قالها الناقد المجري جورج لوكاش: «الرواية ابنة المدينة»، ونحسب أن لوكاش لم يقصد أن المدينة هي وحدها فضاء الرواية، ولكنه قصد، كما نرجّح، أن نشوء المدينة وصيرورتها، هما اللذان اقتضيا ظهور جنس أدبي، بانورامي، جديد هو الرواية بديلاً عن الملحمة مثلاً.
ودليلنا على ما نقول، لو اكتفينا بالأمثلة من التجربة العربية وحدها، أن روايات مهمة نجحت وحققت صيتاً لم تكن المدينة هي فضاءها المكاني، وحسبنا هنا أن نشير إلى مجمل التجربة الروائية لليبي إبراهيم الكوني، الذي اتخذ من الصحراء وعوالمها وأسرارها وسحرها فضاء لرواياته، وشيء من هذا يصحّ على خماسية «مدن الملح» لعبدالرحمن منيف التي انطلقت من الصحراء أيضاً، وهي تعالج بدايات اكتشاف النفط وما ترتب على ذلك من تحوّلات.
وعلينا أن نلاحظ أيضاً أن الرواية التي فازت هذا العام بالجائزة العالمية للرواية العربية، «تغريبة القافر» للعماني زهران القاسمي، تدور أحداثها في بيئة غير مدينية، وهو ما ينطبق على روايته السابقة «القنّاص» أيضاً، وربما مجمل منجزه السردي
هذه الأمثلة لا تعني البتة خطأ ما قاله جورج لوكاش حول أمومة المدينة للرواية، بالمعنى الذي قلناه في المدخل، أي أنه لولا نشوء المدينة ما كانت الرواية كجنس أدبي قد ظهرت، ولفتت نظري في شهادة للناقد السعودي محمد الحرز، في حديثه عن الأدب في منطقة الإحساء التي هو أحد أبنائها، تأكيده، هو الآخر.
أن الرواية ابنة المدينة، لكن روائيين كباراً كتبوا الرواية بذهنية القرية والتاريخ، لافتاً إلى أن الإحساء إلى الآن ليست جاهزة لصنع رواية، مؤكداً أن الشعر هو الموروث الرئيسي فيها، وهو الذي يعبر عن جميع الظواهر الثقافية المعيشة «لأن التحولات المفصلية المقصودة هي بنية مجتمع المدينة»، مؤكداً أنه لا يمكن الخروج من الأجناس الأدبية إلا بتطور المدينة، تطوراً حديثاً يبدأ من الذهن إلى الواقع.
هل يمكن لنا أن نقرأ روايات ديستوفسكي مثلاً، من دون أن تستوقفنا مدينة سانت بطرسبورغ التي تدور فيها أحداث أهم رواياته، فنطوف مع أبطالها في شوارع تلك المدينة ونلج تفرعاتها، ونمشي بمحاذاة نهر النيفا الذي يقطعها؟ وهل لنا أن نقرأ روايات نجيب محفوظ من دون أن تأسرنا القاهرة التي هي فضاء أغلبية رواياته؟
وقد عدّد الكاتب ماهر البطوطي مناطق «قاهرة نجيب محفوظ» كما أسماها: الجمالية، الغورية، الحمزاوي، باب الخلق، الدرب الأحمر، الحلمية، الموسكي، الأزبكية، باب الشعرية، البغالة، الحسينية، السكاكيني، الوايلي، و«عصب هذه المنطقة»، كما يصفه بطوطي، هو شارع المعز لدين الله الذي يخترق معظمها.
الرواية والمدينة – حسن مدن
جريدة الخليج