الأنتلجنسيا العربية وأسئلة النقد – بقلم علي حسن الفواز

علي حسن الفواز
تعقيب على مقال الكاتب المغربي شرف الدين ماجدولين عن إدوارد سعيد ومحمد برادة

نشرت جريدة «الشرق الأوسط»، في عددها 16129 في 25 يناير (كانون الثاني) 2023، مقالاً للكاتب المغربي شرف الدين ماجدولين، تحت عنوان «بين إدوارد سعيد ومحمد برادة… محطات من مجاورة ذهنية» حاول فيه مقاربة إشكالية الوعي بمآزق الانغلاق الحضاري، مقابل التعريف والاعتقاد بدينامية الأدب.

هذه المجاورة الذهنية ليست عابرة، بل هي حادة في الكشف عن مجاورات تاريخية وأنطولوجية، إذ يتحدث عبرها سعيد وبرادة عن التذاوت بينهما، وعن ما هو عميق في حمولات علاقتهما المعرفية، وأهمية ما تصنعه مجاوراتهما تلك من أسئلة فارقة، تخص مقاربة ثنائية الشرق/ الغرب العربيين، وتذهب باتجاه الوقوف عند الأسباب العميقة التي تتعلق بأزمة الإنسان العربي، وبالعطب الثقافي الذي لا ينفصل عن «الانغلاق» الحضاري.

هذا الانغلاق يعكس في جوهره كثيراً من أعراض ذلك العطب الثقافي، والضعف التاريخي في وظائف الأنتلجنسيا العربية، ذات المرجعيات الآيديولوجية، والتشوهات الأدائية، على مستوى عزلتها وأوهامها، أو على مستوى تعمية أسئلتها النقدية، بما فيها نقد الذات، فضلاً عما يتعلق بمستوى ضعف البنى المؤسساتية، التي انعكس ضعفها على صناعة الخطاب، وعلى سياقات إنتاجه وتسويقه وتداوله، وعلى نظرته لما هو مأزوم في الصناعات الثقافية الأخرى.

لا شك أن مثقفاً إشكالياً ونخبوياً مثل إدورد سعيد، كان ينظر إلى مفاهيم التاريخ والأمة والدولة نظرة قلقة ومتعالية، وبقدر ما فيها من التأسيس المنهجي/ الأكاديمي، إلا أنها تظل قاصرة عن رؤية المخفي من «الأنساق المضمرة» فيها، على وفق رؤية الغذامي، وبالتالي بدا خطاب سعيد وكأنه الأقرب إلى الخطاب الانفعالي، المسكون بأزمته الغائرة مع الهوية، وبالعلاقة مع الآخر، فضلاً عن «وعيه الشقي» بالأزمة الفلسطينية، ولا أحسب أن لهذه الأزمات المُكرسة علاقة مباشرة بـ«أزمة العقل العربي» المسؤول عن صناعة الأزمة الفلسطينية ذاتها، كما أن الحديث عن مثقف استثنائي مثل محمد برادة لا يعفي من الحديث عن المرجعيات الآيديولوجية التي صاغت أسئلة وعيه، وتشييد جهازه المفاهيمي للنقد والسرد والهوية، وهي مفاهيم مضطربة في تقعيدها وفي تداولها، وربما وجدت في علموية ونخبوية وقلق إدوارد سعيد مجالاً لفتح مزيد من السجال والجدل، وبما جعلته أكثر هوساً بالتعبير عن أزمة الإنسان العربي – كما يصفه – إزاء الآخر، بما فيها موقفه من «إسرائيل» وعنفها العنصري والأنثربولوجي، ومن احتلال الولايات المتحدة للعراق، وعلاقة ذلك بأطروحاته الاستشراقية التي صنعت لقارئها وعياً مسكوناً بالنقائض وأسئلة الوعي المضطرب بأزمته الوجودية، وتعالقاتها مع رهابات الهوية والتاريخ والآخر.

الاثنان يلتقيان عند عتبة البحث عن أسئلة مفارقة، لمفهوم «الأمة» في مرحلة ما بعد الكولنيالية، ولوظائف الأدب والمعرفة، لكنهما ظلا مسكونين بعقدة الهوية، وبسرائر محنة العربي القديم؛ العربي الذي غابت عنه الصحراء، ففقد بداوتها وسحرها وشعريتها، لكنه لم يتآلف – أيضاً – مع المدينة، بوصفها مكاناً للتجاوز، والعمران، فاصطنع له وجوداً قلقاً، لم تسطع الذات العارفة المسكونة بالآيديولوجيا أن تمارس فيه لعبتها في الكشف والتواصل والإنجاز والتأسيس، لذا ظلت أسئلة «العقل الحضاري» غائمة، ولجوجة، ولا تعرف الطريق إلى أسئلة جديدة، غير التي ورثناها من الأفغاني ومحمد عبده ومن شكيب أرسلان، وحتى من أطروحات الراحل محمد عابد الجابري، فالحديث عن الأسئلة التي تخص إشكالية العقل العربي ظل حديثاً يُعيد إنتاج اشتباكاته، وأوهامه القديمة، تلك تبدأ من عقد تمركزاته القديمة، حيث تمركز التاريخ، والنزعات الإصلاحية والثورية، والعلاقة الملتبسة مع الآخر، وانتهاء بتمركزات الظواهر الحزبية اليسارية والقومية والجماعات الأصولية، وبالتالي فإن هذا المشروع الإيهامي للأنتجلنسيا العربية وجد نفسه أمام مأزق التجاوز، وعند تشوه فاعلية المراجعة، بما فيها مراجعة الوظيفة الثقافية، التي لم تزل للأسف وظيفة متعالية، ومعزولة، وربما فيها من التلفيقية الشيء الكثير، لا سيما مع بعض السلطات العربية التي لم تزل مسؤولة عن العنف والكراهية والاستبداد، وتراقب كل الصناعات الثقافية، بدءاً من صناعة الكتاب إلى الفيلم والأغنية والعرض المسرحي، مثلما تراقب «المواطن الثقافي» بوصفه مواطناً مشاغباً، ومن الصعب تركه لمزاجه الحاد، ولصخبه، وهذا ما تبدى واضحاً في تغول مظاهر العنف في مرحلة ما بعد «الربيع العربي»، الذي أجده تمثيلاً سسيوثقافياً للفشل، واستلاباً للعقل النقدي، وموتاً لليسار، وللنزعات القومية التي ضيعت هويتها التاريخية والسردية معاً.

ما يحضر في هذا الضياع، هو الذكريات، والسير، والليالي، وربما الحلم الأنتلجنسوي الباحث عن حديث التطهير، لكن الغائب منه يظل مرهوناً بجدة حيازة آليات المواجهة، والتمرد على «الهوية الخائفة» والتلويح بصحوة «الفكرة» التي تحتاج إلى مَنْ يوقظها، وأن يقترح لها مسار الرهان على الجديد، والثقة بمسؤولية المواجهة، ولكن ليس على طريق التلفيق الثقافي، أو سطوة جنرالات الحرب، أو أصحاب الأدلجات الدسمة، بل على طريق الوعي بـ«رؤية العالم»، كما يسميه غولدمان، وباتجاه إثارة أسئلة جديدة، يمكن من خلالها استئناف الوجود بوعي نقدي يملك أهلية التحرر من عقدة الهوية الخائفة، وحيازة الوعي المُحرض على مراجعة التاريخ، والنظر إلى الآخر بوصفه «نصاً» قابلاً للقراءة والاختلاف والمواجهة.

الأنتلجنسيا العربية وأسئلة النقد – بقلم علي حسن الفواز

جريدة الشرق الأوسط