تعد اللغة – أي لغة – الركيزة الأولى في بناء “الهوية” التي تقوم، إضافة إلى اللغة، على مجموعة التقاليد والعادات والرؤى والعلوم والآداب المتوارثة، من دون أن يكون ذلك – على أهميته – مسوغاً للعزلة والجمود وانعدام التفاعل مع مستجدات الحضارة الحديثة. وعليه، فإن حديثنا عن اللغة العربية لا يعني الوقوف – بدوالها ودلالاتها – عند مرحلة من مراحلها. فاللغة عامةً أشبه بالكائن الحي دائم التطور والنمو، وهي تستمد هذا التطور والتجدد من تطور الجماعات المتحدثة بها وتجدد معارفهم وحاجاتهم التاريخية، بخاصة أننا نعيش في عصر الابتكارات التكنولوجية المتسارعة وما يعرف بالثورة المعرفية الرابعة، مما يضاعف من التحديات التي تواجه اللغة العربية. فليس من المفيد دائماً التغني بأمجادها الماضية، بل ينبغي أن نسعى لتحقيق إنهاضها، إلى بناء مجتمع معرفي عربي يجمع بين الأصالة الهوياتية والمعاصرة المنفتحة على عالم المعارف والعلوم والآداب الحديثة.
قابلية التطور
من المعروف أن اللغة العربية من اللغات السامية، لكنها امتازت عن غيرها بقدرتها على التطور، مما أكسبها مرونة وحيوية وزيادة في مفرداتها وتطور دلالاتها، ويرجع ذلك، كما يؤكد الباحث السوري في اللغويات أحمد الحسين، إلى السمات الآتية: “الإعراب”، و”الترادف”، بمعنى وجود عدة ألفاظ للمعنى الواحد، كأن نقول دلالة على الذهب (الذهب – التبر – العسجد) ودلالة على القمح (القمح – الحنطة – البر) مع ملاحظة وجود فروق دلالية دقيقة لا تخل بالمعنى المشترك، و”الأضداد”، بمعنى وجود بعض الكلمات التي تحمل معنيين متضادين، ومن ذلك كلمة “الجون” التي يوصف بها الأسود والأبيض وكلمة “الصريم” للدلالة على الليل والصبح، و”لغة المصطلح”، حيث نجد مصطلحات دينية وعلمية وإدارية وفلسفية، وغير ذلك. فاللغة العربية دائمة التطور تصديقاً لقول عميد الأدب العربي طه حسين: “لغتنا العربية يسر لا عسر، ونحن نملكها كما كان القدماء يملكونها، ولنا أن نضيف إليها ما لم يكن مستخدماً في العصور القديمة”. وينفي محمود تيمور في كتابه “مشكلات اللغة العربية”، وصف تلك اللغة بالجامدة التي لا تواكب العصر. ويرى أنها ما زالت تؤدي “مهامها على وجه مرض، وها هي تطاوع الرقي العلمي والأدبي والعمراني في العصر الحديث… وحسبنا الصحافة مصداقاً لهذه الحقيقة، فقد لانت العربية للصحف والمجلات تعبر عن شؤون الحياة العامة والخاصة”. ويقول الأستاذ بجامعة كولومبيا الأميركية وتشرد كوتهيل، “كان للغة العربية ماضٍ مجيد، وفي مذهبي أنه سيكون لها مستقبل باهر”.
واقع اللغة العربية
على رغم كل ما ذكرناه عن مزايا اللغة العربية، يظل من المهم أن نعترف أنها تعاني، كما يقول الباحث علي عبدالله موسى، الإهمال والإقصاء والتهميش “داخل عقول أطفالنا وعقولنا وبيوتنا ومكاتبنا وأجهزتنا وشوارعنا وإعلامنا”. ونضيف إلى ذلك أنها مهمشة أيضاً داخل دور التعليم في مراحله المتعاقبة، في الوقت الذي تحتل فيه اللغات الأجنبية أماكن ومكانة اللغة العربية في كل شيء في حياتنا، وذلك في ظل “العولمة” التي تسعى إلى فرض لغتها – الإنجليزية خاصة – ونظام اقتصادها ومعارفها على حساب الهويات الأصيلة. وهكذا تتحول اللغات الأجنبية إلى أدوات هيمنة، وقد تعرض العالم العربي كثيراً لهذه “الإكراهات” اللغوية من وقت مبكر بدءاً من “تتريك” لغة السياسة والإدارة وجعل العربية لغة الدين فحسب على مدار خمسة قرون أثناء الحقبة العثمانية، ثم جاءت مرحلة الاستعمار الغربي بمحاولات فرض اللغات الإنجليزية والفرنسية والإيطالية، ومع تصاعد حركات التحرر العربي أصبحت اللغة العربية من أهم أدوات هذا التحرر، حيث جعلت جامعة الدول العربية التي تأسست عام 1945 من اللغة العربية مرجعاً أساسياً في تأسيسها، كما طالبت عام 1973 بأن تكون لغة الضاد من بين لغات الأمم المتحدة الست. وبالموافقة على ذلك الطلب أصبحت اللغة العربية لغة عالمية معتمدة في المنظمات والهيئات الدولية. وفي عام 2012 ناشد المجلس الدولى للغة العربية في مؤتمره الأول، القادة والمسؤولين العرب والمنطمات العربية والدولية لتأسيس اليوم العالمي للغة العربية. وتم اختيار يوم 18 ديسمبر (كانون الأول) يوماً عالمياً للعربية. ولا شك أن كل ما سبق يؤكد عمق العلاقة بين اللغة والسياسة، وهو ما أشار إليه الباحث المصري المرموق محمود فهمي حجازي بقوله، “إن من ظن أن اللغة العربية شيء والسياسة شيء آخر، فقد وضع نفسه خارج منطق التاريخ. إن المسألة اللغوية قائمة في جوهر التصور السياسي من حيث هي إدارة حياة الناس في معاشهم وفي إنجازاتهم”.
طموحات وضرورات
إن ارتباط اللغة العربية بمسألة الهوية يجعل منها قضية مجتمعية لا تقتصر على المتخصصين بها وحدهم، مما يترتب عليه ضرورة الاهتمام بالفكر والمعرفة، وهو ما ينعكس إيجابياً على اللغة العربية. فعندما سئل جبران خليل جبران عن أهم وسائل إحياء اللغة العربية أشار بوضوح إلى ضرورة الاهتمام بالفكر، وربط بين قوة اللغة وقوة الفكر نفسه في مجالاته المختلفة. واللغة في أصلها ممارسة وأداة تواصل، لهذا ينبغي أن تتجاوز كونها مجموعة من القواعد التي يتم استظهارها دون قدرة على تطبيقها. وهذا ما يجب أن يراعى في قاعات الدرس في مراحل التعليم المتعاقبة من خلال تيسير النحو العربي ودمجه في فروع اللغة العربية، بخاصة النصوص الأدبية، حتى تصبح اللغة إحدى ملكات الطالب منذ مراحله التعليمية الأولى.
كما ينبغي إعادة النظر في ترتيب العصور الأدبية بحيث نبدأ بالعصر الحديث، لأنه الأقرب إلى ذائقة الطالب، وصولاً إلى العصر الجاهلي، ومروراً بالعصرين العباسي، ثم الأموي، وذلك لأن البدء بالعصر الجاهلي كما هو حادث الآن يصد الطالب ويشعره بغربة اللغة العربية عنه.
يضاف إلى ذلك – وهو أمر في غاية الأهمية – ضرورة الاهتمام بمعلمي اللغة العربية علمياً ومادياً وتربوياً، حيث ثبت – من خلال مجموعة استبيانات ميدانية دقيقة – ضعف التكوين العلمي والثقافي لنسبة كبيرة منهم. وفي هذا السياق يمكن الإشارة إلى أهمية الجماعات المدرسية والجامعية، ومن ذلك على سبيل المثال جماعات الإلقاء والصحافة والمناظرات والإذاعة والمسرح، كما ينبغي أن تقام المسابقات على أن يكون كل ذلك باللغة الفصحى الميسرة. ورداً على ما أشاعه بعض المستشرقين – مثل الإنجليزيين كارلفولرز عام 1890 وباولوفيلوت عام 1926، حول أن أهم عوائق منع العرب من الاختراع أنهم يؤلفون ويكتبون باللغة العربية الفصحى، أقول: ينبغى تفعيل دور مجامع اللغة العربية على مستوى العالم العربي لوضع معاجم تستوعب ألفاظ الحضارة التي استطاعت لغتنا استيعابها في عصور الازدهار حين كانت العربية لغة العلم.
من بين الأمور المهمة التي يجب الانتباه إليها ضرورة توظيف التقنيات الحديثة في تعلم اللغة العربية، والبعد عما هو سائد إلى الآن من آلية التلقين والحفظ. فمن الظواهر المعروفة أننا نعيش ما يسمى عصر الصورة، وعليه فمن الممكن توظيف تقنية الغرافيك – الرسوم المتحركة – لتحويل المادة العلمية إلى شكل مسرحي، وتخصيص حصة ينصت فيها الطلاب إلى إلقاء القصائد بأصوات معبرة.
لغة الضاد في مواجهة تحديات العصر الحديث – محمد السيد إسماعيل
www.independentarabia.com
العويس الثقافية