أنا الطفلة رفيعة، كان حلمي أن أزور مصر، وارتحلت إليها باحثة عن العلم، فغصتُ في موجات من الثقافة المصرية، تشربْتُ تفاصيلها، وعايشتُ رؤاها بدقة؛ حتى نضجت ثمرات أمنيتي، وتخرجت في جامعاتها العريقة».
واليوم أعود إليها مع وفد الإمارات؛ للاحتفال بخمسين عاماً في حب مصر، في مبادرة جميلة وإنسانية وراقية، وذكية جداً، نحتفي بعلاقة عمرها خمسون عاماً، رسمياً، ولكني أؤكد أنها بدأت قبل ذلك بكثير، لنقل: إنها بدأت مع وصول صوت أحمد سعيد، عبر إذاعة صوت العرب، في بدايةِ الخمسينات، أو مع استقبال جمال عبدالناصر للمرحوم الشيخ راشد بن سعيد (حاكم دبي) آنذاك، وبرفقته نجلاه: الشيخ مكتوم، والشيخ محمد بن راشد، أو حين أتى الشيخ زايد؛ ليجعل الذي بين مصر والإمارات أكثر من مجرد تحالف بين دولتين؛ وهذا تاريخ قريب، تتذكرونه بكل تفاصيله..
لكن اسمحوا لي أن أؤكد أيضاً أن هذه العلاقة لم تأت على مستوى القيادة فقط، بل على مستوى الشعبين -أيضاً- جيلاً بعد جيل.
أنا من ذلك الجيل الذي أرَّخَ بداياته بمعرفته للقراءة في تلك المناهج المصرية، وخاض معركة الكلمة في جبهات الأفكار بين سطور (الدفاتر المصرية)، وأسلحته التي نسميها (أقلاماً) كُتِبَ عليها «الجمهورية العربية المتحدة»، إنه الجيل الذي ارتاد المدارسَ في الستينات، في تلك البقعة الجغرافية المحدودة، لكن حين بدأنا بالقراءة، فإننا ولجْنَا عالماً لا حدود له.
بدأت دولة الكويت ببناء المدارس في الإمارات، وتبرعت الجمهورية العربية المتحدة بإرسال البعثات التعليمية، وقد برزَت – في رحلة تعليمنا- جنسيتان (هما: المعلم المصري، والمعلم الفلسطيني)، وإن ظلت روح التعليم فينا مرتبطة بعمق أكبر بالشخصية المصرية.
والدتي (رحمها الله) لم تكن من خريجات الجامعات، إنما استقت معرفتها من تواصلها مع جهات النشر في مصر، فكانت تطلب الكتب والمجلات، تلك التي دخلت بيتنا في سنوات مبكرة (مثل: مجلة المصور، وآخر ساعة، وصباح الخير، وروزاليوسف…)، وكان إخوتي يطلبون مثل هذه المجلات أيضاً، مع كتبٍ أخرى تشبع تطلعاتهم المختلفة في ذلك الحين، وبهذا توافرت لنا معهم ظروف لقراءة أكثر شمولية وتنوعاً.
جاءت المرحلة الأخرى حين انتقلت القراءة إلى الرواية؛ فمعظم جيلنا – ممن نشأوا على حب القراءة- كانوا يقرأون لكُتَّابِ مصر، ابتداء من يوسف السباعي، وإحسان عبدالقدوس وعبدالحليم عبد الله، وغيرهم.
أذكر كذلك أني كنت أطلب من أخي محمد غباش، حين كان يدرس في مصر «هندسة طيران»، في بداية السبعينات، أن يأتيني بأسطوانات من مصر، وهذه ثقافة فنية ومعرفية أيضاً.
وهكذا، شربْتُ من نيل مصرَ قبل أن أصلَ إليه، اتحدْتُ بها روحاً بروح، وعقلاً بعقل، قبل أن نلتقي وجهاً لوجه، وطالبة بجامعة، وطبيبة بشهادة تخرجها، كشجرة جذورها ممتدة مع النخيل في أرض الإمارات، وغصونُها تُدَلِّي ثمرات الأماني وفاكهة الطموحِ في مصر، ولم يعد أمامي مفرٌّ من أن أقرر أن أدرس في مصر، وأذكر أنه بعدما جاءتني الموافقة على الدراسة في الأردن، اعترضْتُ؛ فلقد اخترت الجامعات المصرية؛ تلك التي كانت حلماً لي من خلال ثقافتي ومن خلال معلماتي؛ لقد كنت بحاجة نفسية عميقة الى أن أرى هذه الدولة التي خرجت هؤلاء المعلمات اللاتي درّسننا، وأولئك الكُتَّاب الذين كتبونا في قصصهم، وقرأناهم بعمق وإعجاب.
مصر؟! إنها قصة بدأت في قلبي وعقلي منذ الطفولة والشباب، وما زالت مستمرة حتى هذه اللحظة، مروراً بدراستي في القصر العيني، من نوفمبر/ تشرين الثاني 1975م، وعودتي إلى دبي في يناير/ كانون الثاني 1983م، وما في هذه المدّة من مراسلات كثيرة بيني وبين أمي نتحدث فيها عن مصر، حتى صارت تلك الرسائل توثيقاً لتلك المرحلة أعود إليها كثيراً، لأتعرف الى نفسي وعلاقتي بكل ما حولي!
في مصر أتيح لي – وفي سن مبكرة – أن ألتقي بكبار المفكرين المصريين؛ ففي بداية دراستي في القاهرة التقيت بالدكتورة عواطف عبدالرحمن (وكيلة كلية الإعلام آنذاك)، التي دعتني إلى عالمهم الذي كان ينتمي لتيار الفكر اليساري المصري، ولأعضائه لقاءات منتظمة في بيت د. لطيفة الزيات.
وكأن الله حقق لي الرابط بين خيالي والواقع المصري، فكنت مشغولة جداً بمحيطات الفكر أكثر من دراسة الطب التي لم أعطها الأولوية، حتى أخذتني هذه الرحلة إلى عوالم أكثر وأعمق، أعتقد أنني كنت محظوظة بها، مثل إنسان وجد مصادفة كنزاً من المعرفة، وبالفعل كان كنزي من العقول المثقفة والمفكرة والتي كانت أساس الفكر في مصر.
وبعدُ، ففي ظل وجود هذا التوجه السياسي لديهم، أصبح هناك مجالٌ لإنسان صغير مثلي في ذلك الوقت ليجد فرصته في أن يتعلم؛ لذلك لم تكن رؤيتنا -أنا وإخوتي والمتعلمين في ذلك الوقت- أن انتماءنا لمصر عاطفي محدود؛ فنحن لم نكن نحبها فقط، وإنما كنا –أيضاً- نرى فيها قُرْباً آخر غير كونها مصدراً للكتب والغناء والبرامج التلفزيونية والمسلسلات، نرى فيها عمقاً للوطن العربي متجذراً في النفوس، وإنني أحس دائماً بالأمان كمواطنة عربية؛ لكوني منتمية لهذا البلد، وبلدي كذلك..
هذه الخلفية التي ذكرتها الآن كانت أرضاً خصبة عشت فيها، وتفاعلت ولم أكن متفرجة، كتبت -في تلك السن المبكرة- رسائل إلى رؤساء تحرير الأهرام، وعُقِّبَ على رسائلي، وكتبت لمجلة «صباح الخير»، ونشرت رسائلي. وفي نهاية دراستي أجرَوْا معي تحقيقاً مطولاً عن تجربتي في مصر، ونشر في مجلة «صباح الخير».
قرأ المقال والمقابلة كثير من الأصدقاء، كان تعقيبهم: «ليتنا استطعنا أن نخلق انتماء لمصر في أولادنا كالذي عندك».
وباختصار: إن كان الناس يقولون: «من شرب ماء النيل، عاد لمصر.»، فأنا أقول: من تشرَّب الثقافة المصرية لن يتوقف عن الارتواء بها، ومنها، أبداً.
والآن تنطلق العلاقات على مستوى آخر، ونتابع -في السنوات العشر الأخيرة- استعادة مصر لقوتها ورفعتها وقدرتها على أن تكون المحيط الآمن للدول العربية، وتتحرك قلوب أبناء «حكيم العرب» الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، مسترجعين وصية أبيهم في دعم مصر، حين يتطلب الأمر ذلك… وتتصدر العناوين الاقتصادية بمشاريع تنموية ضخمة في جمهورية مصر العربية، تأمر بها حكومة العاصمة أبوظبي بتوجيهات من القائد صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد (رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة) حفظه الله، مؤملين أن تكون مصر رائدة الصناعة في قارة إفريقيا والعالم العربي.
والأمة العربية تنتظر عودة لبنان والعراق وسوريا؛ لتقدم ما انقطع في العلم والعمل والحضارة، وفي تصدير الثقافة، ننتظر عودة أمتنا العربية في استئناف الحضارة، كما قال صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد، رعاه الله.
وتبقى مصر هي مصر.. حماها الله ووفق أبناءها؛ ليكونوا أكثر عطاء لأرضها..
في حب مصر – بقلم رفيعة غباش – جريدة الخليج