في علاقتي القديمة بمصر وبمدنها والممتدة طوال سنوات العمر، والتي وصلتني قبل أن أصلها، وعرفتها قبل أن تعرفني، وتسربت من خلال القراءات والسينما والتلفزيون، والمعلمين، حتى حان السفر لأول مرة إليها قبل أكثر مما تعدون، يومها كان نزق الشباب، ولكنْ ثمة وعي يتكون ويكبر، فرأيتها بقلبي الذي كان كبرعم أخضر، ودهشة العمر الغض، حتى أصبحت القاهرة تكبر في الصدر كل يوم أكبر، اليوم رغم البعد كانت التحية واجبة للأم، والعبارة لازمة للمحروسة، حيث لم تستطع السنون التي مضت أن تغير غير وجه القاهرة، لكنها ما بدلت طبيعة القاهرة الساكنة بوجع العروبة، وفرح العروبة، إذا ما لاح في الأفق فرح معمم بتيجان العرب، وصهيل خيولهم المطهمة.
القاهرة التي ننشد، تلك القابعة جهة الشمال، لا يزاحمها في الحب غير المنزل الأول.. الوطن الأول، نعشقها كما هي، بكل تناقضات الدنيا في أم الدنيا، ضجيجها العالي، طبيعة ناسها، سحر مآذنها والتسابيح الفجرية، والأماكن التي تزخر بروائح التاريخ والعطارة، وجلبة خيول الفتح، ومسك عطر الأولياء الصالحين وحلقات الذكر.
القاهرة اليوم صغيرة بحجم بيت الصعلوك الليلي، وثرثراته في الشعر والسياسة، والنكات الخارجة من بطن الأدب، وعن قلة الأدب، وعن الضحك المكشوف وسحائب من دخان ذاهب في زرقة الليل وأشيائه.
القاهرة اليوم كبيرة، بحجم القلوب التي لا تعرف الأسى ولا الأذى، تبسط لك حصيرها الأحمدي الأخضر بلا استئذان، وإن كان رغيف العيش البلدي الذي ما زال عزيزاً على النفس ساخناً أو دافئاً في يد من يقدمه لك بحب، والجبنة البيضاء التي قطعت آلاف الأميال في قطار متهالك، وصرة خبأتها تلك الفلاحة لفلذة الكبد.
القاهرة اليوم، بعيداً عن صالات الفنادق اللامعة، وردهات المتاجر التي تفتح أبوابها للسياح الأجانب، وأفواهها للسياح الخليجيين، بعيداً عن التحجب والقفازات السوداء التي كانت تراد لها، بعيداً عن الرقص المنفرد الذي أجبرت عليه، والانفتاح الذي قلب الهرم، القاهرة هي نور أهلها ومنورة بأهلها.
تظل قاهرة جمال حمدان، والشيخ سيد، وصلاح جاهين، وعبد الحكيم قاسم، ومحمود أمين العالم، وأحمد فؤاد نجم، والخال الأبنودي، ونور الشريف، و«كمبارس قهوة بعرة»، وذلك الصبي المسروق بالموسيقى بليغ، وعبد الحليم، وأصدقاء «اتيليه»، القاهرة هي الأجمل والأنقى، تظل قاهرة الحلم القديم، والأشياء الجميلة التي زرعها ذلك الراقد في قبر الفخر والكرامة، وقلب الفلاح الفصيح.
تظل قاهرتنا التي حفظناها من نقطة أول السطر، هي التي نهوى، نائية عن رياح الخماسين، وتقلبات شهر جليم.
قاهرة اليوم، قد تتمرد على أبنائها، أبناء الوطن الكبير الدارسين، وعلى أصدقائها المخضرمين، وعشاقها القدامى، لكن يظل الرهان على قلبها الكبير، على قلب بهية تلك الأم المصرية الممتلئة عافية والتي تخاف على ابن الجيران أكثر من ابنها، تلك المرضع التي ترسل رُضّعها عمالاً يغتسلون بمياه الخليج وعرق شمسه التي لا تغيب، معلّمين يستقرون في أطراف الدنيا، يحفّظون الصغار نشيد «بلادي، والله أكبر»، قبل حروف الهجاء، تفرح بعودتهم الصيفية وبالأشياء الصغيرة التي يحملونها لأحفادهم الصغار، تظل قاهرة نجيب محفوظ ويوسف شاهين ونجيب سرور ويوسف إدريس وصلاح أبو سيف، وذلك المشاغب سينمائياً محمد خان، وكثيرين عبثوا بهذا الرأس، واستقروا فيه، وما زالت تتسلل رؤاهم ورؤياهم إلى الذاكرة كطعم السكر، هي التي تشتعل فينا، وتمطرنا بين حين وحين بالعطر العروبي، وبهاء نور المساجد القديمة ومشكاتها، وذلك النسيم الفجري الآتي من صوب المحبة والخير، والناس الطيبين.. تظل القاهرة أم الدنيا.
أشياء في مصر أحبها – بقلم ناصر الظاهري