الثقافة شأنٌ ثقافيّ لا محالة، بيد أنَّها وبالتزامُن أيضاً، شأنٌ اجتماعيّ. ففي شكلها البسيط تتماهى – كما يُشير إليه الأنتروبولوجيّون – مع كلّ ما يُضيفه الإنسان على الطبيعة، مهما صَغُر ومهما كان بديهيّاً، ولكنْ في شكلها الأكثر تركيباً ورمزيّة تغدو فكراً أو منظومةً فكريّة. وفي جميع الحالات هي تنبثق من حاجةِ جماعةٍ بشريّةٍ ما إليها لانتظام حياتها اليوميّة والعمليّة.
على هذا الأساس فإنَّ الفكرة أو الأفكار تقوم على مشروع بشري معيَّن يكون سبب وجودها واستمرارها أو تغييرها، شاءت أم أبت… شئنا أم أبينا؛ وهنا تكمن المُعضلة الكبرى، إذ يسعى الشخص المعنيّ دوماً بإنتاج الأفكار (كزهرة لإنتاج الثقافة) إلى جعْلها تطير في فضائها الخاصّ، بعيداً من رابطها الاجتماعي وبعيداً من مشروعها الجماعي المُعلن أو غير المُعلن.
لكنَّ المشروع الثقافي والفكري يبقى شرطاً لا بدَّ منه لبقاء التفكير على قيد الحياة. وعندما يغرق هذا الفكر في اجترار مقولاته وتمجيد أقوال الأسلاف، نُطلِق عليه صفة التقليد؛ وعندما ينتفض على موروثه الثقافي نلجأ إلى وصفه بالتجديد. غير أنَّ في شكله التقليدي أو في شكله التجديدي/ التغييري يبقى فكر المُفكّر مُستنداً إلى مشروعٍ مُجتمعيٍّ عامّ، كبوصلةٍ هادية إلى تحقيق المرامي التي رسَمَهَا هو أو رُسمت له من سواه.
لقد كان للمفكّرين العرب مشروع، ماضياً، وكان لهم بوصلة هادية وصلبة، لكنْ لماذا نشعر اليوم أنَّ هذه البوصلة لم تعُد فاعلة؟ ألأنَّها تعطَّلت؟ أم لأنَّ إبرتها بحاجةٍ لإعادةِ تأهيلٍ على ضوء اختلاف قانون المغناطيس الحديث عن سلفه الذي كان سائداً في الأزمنة الماضية.
1- صحوة النهضة العربيّة
في زمن التصحُّر الفكري العثماني الطويل، الذي امتدَّ على أربعة قرون مُتواصِلة، حَصَلَ خلالها إفقارٌ شعبيّ ومَعرفيّ مناطقيّ واسع في ما كانوا يُسمّونه بالولايات العربيّة، حيث تراجعتِ المعرفة العربيّة من وِضْعتها العقليّة الأصليّة إلى وِضْعةٍ نقليّة هشَّة تقوم على شحٍّ لافت في الإبداع؛ وقد أظهرت الباحثة سحر موَّاس من خلال دراسة محتويات مكتبتَيْن خاصّتَيْن تعودان لشيخَيْن كبيرَيْن في مدينة طرابلس في منتصف القرن الثامن عشر الميلادي أنَّ 327 كتاباً كانت تحتوي عليها من أصل 332 كان يعود تأليفها إلى قرون بعيدة تبدأ من القرن الثامن وتصل إلى القرن السادس عشر، أي أنَّ 1.5% فقط من المُصنَّفات كان يعود تأليفه إلى أقلّ من مئتَي سنة؛ الأمر الذي يُشير إلى تعطّل ديناميّة مُحرّكات الإنتاج الفكري وإلى انطفاء المشروع الحضاري العربي والإسلامي الأوّل. فشرْحُ الشرح، وتفسير التفسير طَغَيَا على الإنتاج الفكري، وساد مكانه التصحُّر العقلي والتوريق النقلي.
من هذا القعر العثماني انبعثت النهضةُ العربيّة اعتباراً من منتصف القرن التاسع عشر في بيروت والقاهرة، مُحاولةً النهوض بمشروعٍ عربيٍّ جديد قادر على مُواكَبة العصر والحداثة التي كانت تدقّ الأبواب، إلّا أنَّ البوصلة الموجِّهة لهذا المشروع الجديد لم تأتِ استنهاضيّةَ الطابعِ بل جاءت تبعيّة الأُفق. فجُلُّ ما سَعَتْ لتحقيقه لم يتجاوز موضوعيّاً مستوى إحياء اللّغة العربيّة وإعادتها إلى مجدها في الحياة الثقافيّة والإعلاميّة بمُواجهة مشاريع التتريك الفاشلة. ما عدا هذا المَكسب العظيم، ما الذي تمكَّنت من تقديمه على المُستوى النوعي؟ لا شيء يُذكر، إذ إنَّ جلَّ مشروعها جاء لغويّاً، مصحوباً بخطابٍ عالي السقف، ولكنْ من دون مشروعٍ فكري اجتماعي حقيقي. ولا غرابة في الأمر حيث إنَّ أبرز روّادها كانوا من الأدباء واللّغويّين والإعلاميّين الذين اقتصر إبداعهم على هذه الحقول، حيث أجاد بطرس البستاني وناصيف اليازجي وأحمد فارس الشدياق وبعضٌ آخر من الفقهاء أمثال محمّد عبده ورشيد رضا.
ولو عُدنا إلى تجربة عصر الأنوار في أوروبا وما تَبعها على يد الأنسكلوبّيديّين لَلاحظْنا أنَّ روّاد هذه التجربة التي غيَّرت وجه أوروبا والعالَم الغربي، والتي أُعجب بها أيّما إعجاب النهضويّون العرب، إنَّما جاءت على يد فلاسفة ومفكّرين بشكلٍ أساس، الأمر الذي جَعَلَ من مشروعها مشروعاً فكريّاً وفلسفيّاً في المقام الأوّل. بوصلة المشروع الأوروبي الجديد هذا كانت ثوريّة في جوهرها المَعرفي، إذ كانت تُنشِدُ بناءَ مُجتمعٍ جديد بأنماطِ تفكيرٍ جديدة تَستجمع خُلاصات الماضي لتؤسِّس لمشروعِ حياة جديد لا مُجاملة فيه ولا مُساومة على مبادئ الحريّة والمُساواة الاجتماعيّة والمُواطَنة المدنيّة.
من هنا جاءت الأنسيكلوبيديا، بتسميتها اللّافتة، ولأوّل مرّة في تاريخ المعرفة البشريّة، عام 1751، “الأنسيكلوبيديا أو القاموس المُعَقلَن للعلوم والآداب والمِهن“، شارَكَ في إنتاجها حتّى عام 1772 مئة وستّون فيلسوفاً ومفكّراً وعالِماً، كلٌّ في اختصاصه. في حين أنَّ دائرة المعارف التي أبصرت النور عام 1876، في عزّ حركة النهضة العربيّة، مُعبِّرةً عن روحها، لم تتجاوز قَلَمَ كاتبٍ بارعٍ هو المعلّم بطرس البستاني وأبنائه وحفيده. وقد جاءت على نحو ترجمة حرَّة لمقالات مُختارة كانت تصدر عن المجلّات الغربيّة في ذلك العصر ضمن أبواب تمَّ ضبطها مُستقلّة عن بعضها البعض. وقد كانت مشروعاً ثقافيّاً بارزاً في حينه لكنْ من دون التزامٍ حقيقي بقضايا المُجتمعات العربيّة الفكريّة المُرتبطة بالنظام المعرفي السائد أو السياسي المستقبلي، مع ابتعادٍ نسبيّ عن التقليد. موَّل أفرادٌ مستقلّون من كلّ أنحاء أوروبا طباعة ونَشْر الأنسيكلوبيديا التي أشرف عليها الفيلسوف ديدرو، أمَّا دائرة المعارف العربيّة فقد موَّلها الخديوي إسماعيل. ولا نجد بين موادّها مثلاً ذِكراً لمُصطلحاتٍ دالّة ومركزيّة عربيّاً كالعصبيّة أو المُلك أو الصبغة الدينيّة، وهي كلّها موجودة في مقدّمة ابن خلدون منذ عام 1375م.
2- صدمة الحرب العالَميّة الأولى
جاءت وقائع الحرب العالميّة الأولى والسقوط المدوّي للسلطنة العثمانيّة بمثابة انهيارٍ مَعرفي وعسكري على السواء. ووجدتِ الشعوبُ العربيّة نفسَها، كإثنيّاتٍ موسَّعة وجماعاتٍ عصبيّة متفرّقة، أمام فراغٍ فكري مُضاعف؛ إذ لا مشروع عربيّاً بديلاً قادراً على أن يَفرض نفسَه على الزّمن الاستعماري الذي أَعقب الهزيمة العثمانيّة كعنوانٍ لهزيمةِ فكرٍ تقليدي طالما اعتبرَ نفسَه وأوهَمَ الناس جميعاً أنَّه غير قابل للزوال.
ففي ظلّ هذا الواقع ما كان للفسيفساء العربيّة الاجتماعيّة والسياسيّة التقليديّة إلّا التبعيّة، على نحو ما يذكره ابن خلدون من نزوعٍ للمهزوم بتقليد المُنتصِر. وهنا دَخَلْنا في عصرِ الأنوميا والاختلال الاجتماعي العامّ، بل في الاختلال المَعرفي العامّ، إذ إنَّ البوصلة الإسلاميّة والعربيّة الأولى لم تَعُد فاعِلة، ولا شُمعة التركيبة العثمانيّة الساقطة، ولا المصباح النهضوي العربي التّابِع وغير النّاجِع اجتماعيّاً وسياسيّاً كونه لم يتعرَّض لضرورةِ محو موروثات الماضي المعرفيّة قبل الشروع بتقليد الأنموذج الطليعي الغربي، العقلاني في المجالات كافّة. فكانت النتيجة ضياعاً بين فكرٍ تقليديّ موروث انتهت مدّة صلاحيّته، وعدم بزوغ فكرٍ واقعي تغييري جديد قادر على تحقيق النقلة المطلوبة عربيّاً بنجاح. فالشعارات القوميّة كانت مُرتفعة النبرة وغاضِبة، لكنَّها كانت جبانة عندما كان يُطلب منها الانتقال إلى التحقيق العملاني لمقولاتها السياسيّة، إذ إنَّها كانت دوماً عنيفة العاطفة والتجييش الجماهيري وهزيلة الالتزام بالعقلانيّة السياسيّة والاجتماعيّة. فأَبقت على الموروث التربوي والفكري القائم على المشروع الأوّل الذي كان قد وُضع قبل ألف سنة ونيّف مع تمويهٍ خطابي وكلامي يشبه عَرْبَسَة الأرابيسك.
فنشأت أنظمةٌ هجينة، تقدميّة الخطاب وتقليديّة البنيان، تُسمّى جمهوريّات العصبيّة، تتظلَّل بأحزابٍ قوميّة تُتْقِنُ تمويه العصبيّات التي تقوم عليها، وتقود باسمها مُجتمعاتٍ وبلداناً بعَينها لم يتخطَّ وعيُها بعد مستوى أهل العُصبة. وفي نهاية المطاف كان الوصول إلى فراغٍ فكريّ وامتلاءٍ إيديولوجيّ جَعَلَ جلّ الشعوب العربيّة تقع في فخّ التمظهُر الثقافي العصري المُتمدّن الضارب جذوره عميقاً في المعرفة العصبيّة على حساب التقدُّم والعقلانيّة الاجتماعيّة والإنمائيّة.
صعوبة بناء الأنموذج الإرشاديّ العربيّ الجديد
في ظلّ هذه المَعْمَعة الفكريّة بين ما يُسمّيه البعض الأصالة وآخرون التحديث، ضاعَ المشروع العربي وفَقَدَ بوصلته مجدّداً، لا بفعْل العثمانيّين أو الغربيّين هذه المرَّة بل بفعل مُمانعاتٍ مختلفة الطرابيش والقبّعات لم تسعَ لبناء أنموذجٍ ثقافي عربي نَوعي جديد ولا أنموذج معرفي حضاري مُبتكر.
في هذا الحراك الهوائي الكثيف الذي قاده تارة مثقّفٌ قَومي وتارة أخرى مثقَّفٌ يسارويّ وطوراً مثقَّف تقليدي، ضاعَ قرنٌ كامل من الزمان لم يتبلور خلاله أنموذجٌ إرشادي عربي جديد. هذا لا يعني البتّة أنَّ مجهودات صادقة في التنوير ورفْع منسوب العقلانيّة لم تُبذل على مُستوى غير بلد عربي، بيد أنَّ هذه الجهود غير المُتناسقة لم تعتمد لا الهدف نفسه ولا الأُفق إيّاه.
في هذا الخصوص لا بدَّ من ذكر مُحاولاتٍ تنمويّة ثقافيّة وفكريّة عديدة صَدرت عن دور نشْرٍ جادّة، كدار الطليعة في بيروت، أو مجالس ثقافيّة عليا في مصر أو وزارات ثقافة عملت على ترجمة بعض الكُتب المُهمّة ونشْرها، وأبرز هذه المُبادرات ما جاء في الكويت على مدى نصف قرنٍ ونيّف، بشكلٍ متواصل، في مجال المجلّات النوعيّة الراقية والمنشورات ذات المستوى الرفيع والمُنتديات والمؤتمرات الفكريّة والفلسفيّة الدائمة، لكن كلّ ذلك، على الرّغم من كَمّه ونوعيَّته، لم يُغيّر في طبيعة المجتمع الكويتي أو أيّ مُجتمع عربي آخر! لماذا يا تُرى؟
لا يقع السبب عند المنشورات بل عند البنية المعرفيّة التي لم يَشأ القارىءُ مغادرتها لا تربويّاً ولا ثقافيّاً ولا سلوكيّاً. فالهجانة الثقافيّة المُعتمَدة منذ عصر النهضة العربيّة لم تُنتِج حتّى اليوم مشروعاً عربيّاً حقيقيّاً خلّاقاً، بل إنّ هذا الأخير بقيَ تائهاً بين ما هو برَّاق وجاذب في تجارب الغرب المجتمعيّة وما ينبغي عدم المساس به في الموروثَيْن الفكري والثقافي التقليدي. علماً أنَّ هذه الوِضعة، أي وِضعة “لا مع جدَّته بخير ولا مع جدّه بخير”، على حدّ تعبير المثل الشعبي، لا تصلح كبديل، لسبب بسيط وهو أنَّها انتظاريّة الطابع ولا قدرة لديها للإتيان بأيّ جديدٍ فعلي.
لذلك تعني الأنوميا الفكريّة والثقافيّة استمراراً لفقدان المشروع الحضاري الاستراتيجي وضياعاً للبوصلة. كما أنَّ هذه الأنوميا تعني البقاء في مُستنقعاتِ المُمانعة المموَّهة والكسل الحضاري، بحيث لا يفيد كمّ الإنتاج الثقافي الحالي عند الجميع، والذي تحوَّلَ اليوم إعلاميّاً، بسبب تزامنه مع كوابح ذهنيّة تُعطِّل بألف طريقة وأسلوب عمليّة التقدّم المعرفي، عبر تجاهلها ضرورات ما بعد الثقافي والتعليمي والإعلامي الصرف. وفي هذه الأثناء يتفرَّج الخارج على المشهد ويعمل على استثماره لصالحه.
حيرة أمام التراث
تجلَّت البلبلة الفكريّة ولمَّا تزل في المَوقف المعرفي من التراث، فالتراث العربي الذي هو من أغنى التراثات المعروفة في العالَم وأغْزرها تنوُّعاً تحوَّل إلى مادّة لا وزن يُذكر لها في حياة العرب المُعاصرين. لا أعني هنا أنَّها غابت عن الساحة، بدليل أنَّ الكتب التراثيّة المجلَّدة تجليداً فخماً ومذهَّباً تملأ المكتبات، بل أعني أنَّ حضورها الحالي لا يقترن بفاعليّةٍ وفائدةٍ للأنموذج الحضاري العربي المنشود.
فالمادّة التراثيّة تخضع لمنظورٍ ثنائي يقوم على التجميد والتمجيد. مؤلّفات ابن سينا في الطبّ لا زالت كما وَضَعها صاحبُها، ولم تَدخل خُلاصات كِتاب “القانون في الطبّ” لا إلى المُختبرات ولا إلى المستشفيات العربيّة، مع أنَّها كانت هي الأساس في تطوُّر الطبّ الغربي؛ فمَن تعامَلَ على نحوٍ تفاعُليّ مع “قانون المَعِدَة هي باب الدواء والداء” هُم الباحثون الغربيّون.
لم يُتعِب باحثونا قلبَهم في تطوير ما أسَّسه المعلّم ابن سينا، وكذلك الحال بالنسبة إلى عِلم الموسيقى والمقامات عند الفارابي، وعِلم العمران البشري عند ابن خلدون، والتفكير الجَدَلي لدى ابن رشد. بقيتْ كُتبهم كلّها كما كَتَبَ اليعقوبي وابن خلّكان مجمَّدة في ثلّاجةٍ فكريّة لم تَفهم من عِلم التاريخ سوى أنَّه تكديسٌ لمادّةٍ سرديّة؛ علماً أنَّ جميع هذه الأعمال لم تكُن تراثيّة عندما أطلَّت إلى النور بل إنَّ أصحابها وضعوها على نحو خلاصاتٍ اختباريّة يُراد لها أن تتطوَّر لاحقاً، مع الأجيال الطالعة، بإضافةِ اختباراتٍ أخرى إليها تُصوِّب ما جاء في مقولاتها الأولى وتَخرج بنظريّاتٍ جديدة.
لكنَّ الذين تعاملوا مع التراث عندنا أبَوا عموماً أن يحذوا حذوَ فلاسفة عصر الأنوار في أوروبا الذين جعلوا الأنسيكلوبيديا مُعجماً مُعَقْلناً جُمِع فيه كلّ التراث الماضي، لكنْ ليس بهدف التجميد والتمجيد فحسب بل كي يكون مُنطلَقاً لتطويرِ المعارف الموروثة كلّها. عندنا تمَّ تعطيل عقلانيّة ابن خلدون واليعقوبي وابن سينا وسواهم، التي قامت عليها الحضارة العربيّة والمشروع الفكري المُمنهَج العربي الأوّل، ورُمي التراث بين أيدي أنصاف وأرباع مثقّفين وجُهّالٍ أمعنوا كلٌّ على طريقته بجعْله إمَّا رديفاً للدّين عند الأصوليّين الذين حظَّروا المساس به، أو مادّةً بلا وزن عند مثقَّفي النهضة الذين لم يشاؤوا استكمال مَسيرته بتثميرها الفكري، أو مادّة تصلح فقط للاستثمار الأيديولوجي في الشعارات الجماهيريّة لدى المثقّفين الحزبيّين العرب، أو عشبة ضارّة ينبغي استئصالها عند المثقّفين اليساريّين.
خَضَعَ التراث الغربي لمُعادَلةٍ قوامها: الاختبار ثمَّ المعرفة، ثمَّ الاختبار فالمَعرفة الجديدة، إلى ما لا نهاية، بحيث بَقيتِ المعرفة القديمة حيّة وجزءاً لا يتجزّأ من المَعرفة الحديثة. أمَّا عندنا فخَضَعَ التراث لمُعادَلةٍ مفادها: الاختبار، ثمَّ المعرفة، ثمَّ الحفْظ في صندوقٍ خشبي مُحكم الإغلاق.
الانطواء الوطنيّ كحاصلٍ فكريٍّ عامّ
في ظلّ عدم إنتاج مشروعٍ ثقافي عربي واسع، ذي طابعٍ حضاري، في المراحل السابقة، كان لا بدَّ من أن يحصل عاجلاً أم آجلاً تقوْقُعٌ فكري محلّي في كلّ بلدٍ من البلدان التي أَنشأتها اتّفاقيّات ما بعد الحرب العالَميّة الأولى. وقد تجلّى هذا الأمر بالتقوقُع الوطني العصباني لدى الشعوب العربيّة والشرق أوسطيّة؛ بحيث عاد الشأنُ الثقافي والتربوي العامّ، بصمتٍ وتحت مسمّيات مختلفة، إلى أحضانِ المعرفة العصبيّة. فقد أضحت هذه الأخيرة الحاضر الغائب والقاسم المُشترَك للحياة الثقافيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة العربيّة المُعاصِرة، وغدا المفكّرون العرب في سوادهم الأعظم في وِضعة مشابهة لتلك التي سادت طوال سبعين سنة متواصلة في الاتّحاد السوفياتي السابق حيث كان مسموحاً بالبحث في مجال عِلم الاجتماع، لكنْ شرط عدم المساسّ بموضوعاتٍ محرَّمة كالنخب السياسيّة والقوميّات والمعتقد الديني. وهي أمور أدَّت كلّها إلى هلاك هذا النظام الشيوعي التوتاليتاري.
إنَّ عودةَ أو مواصلةَ عهد العصبيّات في العالَم العربي المُعاصِر لم يحصل بشكلٍ مكشوف، بل بشكلٍ مستور، إذ يُتاح التفكير مثلاً في الشؤون كافّة تقريباً في البلدان المغاربيّة ما عدا في الوحدة المغاربيّة، بموافقة الجميع وعلى قاعدة أنَّ لا مصلحة حقيقيّة لأحدٍ بالأمر، بناءً على خلفيّة غير مُعلَنة من العصبيّات. وكذلك هي الحال في المشرق العربي وبلاد النيل، فالكلّ يرفع شعارات التقدميّة والتحديث، لكنَّ الكلّ يكبحها على طريقته ويُخضعها عنوةً لنقيضها غير المُعلن عنه. كما تكثر مراكز الأبحاث والدراسات شرقا ًوغرباً، لكن ما من بلد عربي يجرؤ على إنشاء مراكز للأبحاث أو وحدة بحثيّة علميّة تكون مهمّتها دراسة العصبيّة بتجلّياتها العربيّة كافّة في عالَمنا المُعاصر؛ علماً أنَّه من هذه النقطة بالذات بدأ التنوير الأوروبي الذي قَلَبَ وجه الغرب.
كي لا أطيل الكلام، و أبدو وكأنّي أُمعن في نكء الجراح، أقول إنَّ زمن العصبيّات ليس شأناً حتميّاً وأبديّاً تُعاني منه المُجتمعات العربيّة، إذ إنّنا نشهد اليوم ولادة أوّل دولة عربيّة تُحاول بصدق الخروج من بوتقة العصبيّات، وهي دولة الإمارات العربيّة المتّحدة التي اعتمدت التوحيدَ الطَّوعي لسبع إمارات كان بإمكانها أن تبقى مُنفصِلة وتُشكِّل كلُّ واحدةٍ منها دولةً عصبيّة خاصّة بها، كما أنَّ هذه الدولة الفَتيّة قد اعتمدت سلوكاً عقائديّاً سِلميّاً جَعَلَها تُمارِس الأديان كافّة مع الاحتفاظ بدينِ شعبها الخاصّ، كما أنَّها مدَّت جسور الثقافة والتكامُل في كلّ اتّجاه عربيّاً ودوليّاً، في مسعىً منها لبناء مُواطَنة عربيّة جديدة كمدخلٍ نهضوي جديد لفكرٍ عربي حديث لطالما انتظرْنا بزوغَ فجره.
إلام تبقى البوصلة الثقافيّة العربيّة مفقودة؟
مؤسسة الفكر العربي