قالتها الطفلة المغربية الفائزة بسباق «تحدي القراءة العربي» لهذا العام مريم أمجون: «القراءة مستشفى العقول». لله درك يا مريم، من أين أتيت بهذا الوصف الدقيق؟ أتراك جئت لتخطفي الفوز في تحدي القراءة العربي، أم جئت لتشخصي مرضنا الذي استعصى على كل الأطباء من عرب وعجم؟ هل قصدت أننا مصابون بداء الجنون، وأي نوع من الجنون قصدت؟ هل هو جنون من نوع آخر ليس له دواء إلا القراءة التي جئت لتنافسي على جائزتها، فتربعتِ على عرش القلوب قبل أن تتربعي على عرشها؟
مثل نخلة باسقة وقفت مريم أمجون على خشبة مسرح «أوبرا دبي» لتحرج الجميع، رغم أنها أصغر الواقفين سناً وأقصرهم قامة. فغر الكبار أفواههم ومريم تتحدث عن دواء لم يكتشف سره سوى من أقام هذا التحدي ورعاه؛ صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، الذي كرّم مريم أمجون، فطارت مثل فراشة وعريف الحفل يعلن فوزها بالجائزة، قبل أن تسيل دموع الفرح على وجنتيها، لتجد الشيخ محمد بن راشد يحتضنها، ويقبلها، ويمسح دموعها بغترته في مشهد رائع لن تنساه مريم.
ينتهي الحفل الختامي للدورة الثالثة من سباق «تحدي القراءة العربي» ويبدأ سباق وسائل الإعلام على الفوز بلقاء مع أبطال السباق. تقول مريم لدى زيارتها مركز الأخبار التابع لمؤسسة دبي للإعلام، مع زميلها قسّام صبيح من فلسطين، حيث كان التصريح التلفزيوني الأول لهما، إنها تعلمت القراءة وهي في الثالثة والنصف من عمرها. سألتها عن أول كتاب قرأته فقالت إنها سيرة عنترة بن شداد.
تُرى هل كانت تحلم بفارس يخرج العرب من هذا النفق المظلم الذي هم فيه، أم تنبأت بأنها ستلتقي فارساً عربياً على خشبة مسرح «أوبرا دبي» بعد قراءتها لسيرة عنترة؟ وماذا عن السيرة الهلالية يا مريم.. هل قرأتها؟ أسألها فتجيب: هل قصدت حرب البسوس؟ كأني بها تشير إلى جرح عربي قديم نكأتُه بسؤالي لها. أجيبها بنعم، فتقول مريم إنها قد قرأتها، وتذكر أسماء أبطال السيرة التي خلدت حرباً نشبت بين قبيلتين عربيتين بسبب ناقة. هانحن نتقاتل اليوم يا مريم بلا سبب، أفلا نحتاج إلى مستشفى للعقول ترشدينا إليه أيتها الصغيرة؟
مريم ذات السنوات التسع قالت بعد فوزها باللقب إنها قرأت خلال عام واحد ما يقارب 200 كتاب، اختارت منها 60 كتاباً للمشاركة في المسابقة. بعملية حسابية بسيطة هذا يعني أنها قرأت ما يقارب 16 كتاباً في الشهر الواحد. تُرى كم كتاب يقرأ المواطن العربي في العام الواحد؟ سؤال ربما يحرج الكبار قبل الصغار.
لماذا اعتبرت مريم القراءة مستشفى العقول؟ تقول مريم إن القراءة مثل الدواء تداوي لنا عقولنا فتطرد منها الجهل والبلاهة والتفاهة. هذا ما تقوله مريم الصغيرة في زمن يحرّم فيه الجاهلون الكبار القراءة، ويعتقدون أنها مفسدة للعقول، ويغررون بالشباب كي يفجروا أنفسهم.
هنا يأتي صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد ليقيم تحدياً للقراءة، يدعو له جميع أبناء الأمة، فتستجيب له مريم وأقرانها من العقلاء الذين يعتقدون أن القراءة دواء للعقول، تنقل الأمة من حالة التخلف التي تعيشها، لتبعثها من جديد أمةً فاعلة ومشاركة في الحضارة الإنسانية، مثلما كانت في عصورها المزدهرة الأولى، ومثلما يريد لها قادة الإمارات أن تعود لتشارك في ازدهار الحضارة.
تفوقت مريم أمجون، التي تدرس في مدرسة عمومية بمكناس، على أكثر من 300 ألف تلميذ وتلميذة، مثلوا 3842 مؤسسة تعليمية في المغرب. ثم تفوقت بعد ذلك على أكثر من 10 ملايين طالب وطالبة من مختلف الدول العربية، ومن الجاليات العربية والمسلمة في الدول غير العربية.
هذا التفوق يعيد للتعليم العام اعتباره، ويثبت أنه ليس متأخراً عن التعليم الخاص كما هو شائع وراسخ في الأذهان. والدا مريم يعملان أيضاً في مجال التدريس، وقد كان لهما الدور الأكبر في تشجيعها على القراءة وصقل موهبتها وإشباع نهمها، بالإضافة إلى مشرفتها التي كانت تحفزها على قراءة الكتب كما تقول مريم. هذا يثبت أن بيئة البيت والمدرسة مهمة جداً في تشكيل شخصية الصغار، وتوجيه دفة اهتماماتهم إلى ما هو مفيد ونافع لهم.
الجاليات العربية من 30 دولة حول العالم شاركت في تحدي القراءة العربي، حيث استُحدِثت لهم جائزة خاصة ذهبت إلى الطالبة السورية المقيمة في فرنسا تسنيم عيدي. تسنيم قالت إنها تنوي أن تنشئ نادياً للقراءة في فرنسا كي تساعد غيرها على التحدث باللغة العربية، لعلها تساهم في إنشاء جيل مسلح بالنور والمعرفة. هذه الروح التي يذكيها «تحدي القراءة العربي» في نفوس هذا الجيل العربي القارئ يجعلنا نشعر أن هذا المشروع الرائد يمضي في تحقيق أهدافه عاماً بعد عام، كما يشعرنا بالفخر تجاه هذه الفئة من هذا الجيل، التي لا تفكر في نيل الجوائز فقط، وإنما تسعى لنشر المعرفة بين أقرانها.
3 ملايين دولار تقريباً هي مجموع جوائز «تحدي القراءة العربي» هذا العام، تنافس عليها 10 ملايين ونصف مليون طالب وطالبة من داخل الوطن العربي وخارجه. تُرى ماذا تشكل هذه الملايين الثلاثة من صفقة لاعب كرة، قد لا يأتي لناديه ببطولة محلية؟
نحتاج فعلاً إلى مستشفى للعقول.. نحتاج ألف مريم وتسنيم وقسّام.. نحتاج قادة مثل قادة الإمارات ينشرون مستشفيات العقول بيننا.
جريدة الاتحاد