الخوف من الآخر: أبحث عن أجنبي واحد في شوارع المدن الجزائرية! – بقلم أمين الزاوي
إن “الوطنية المشوهة” التي يتستر بها خصوم الانفتاح على الثقافات الإنسانية الكبرى هي شوفينية
يسكننا خوف غريب! هو إحساس يتملكنا منذ سنوات المدرسة، يعرقلنا، يجردنا من كل قوة قادرة على مواجهة الاحتمالات وتوقعات الزمن الآتي.
ولأننا مجتمع يخشى الآخر، يخاف من كل شيء يحيل على الغير، سنظل نعيش في وحدتنا، في عزلتنا، مقطوعين عن العالم. الخوف يولّد فينا وبشكل عفوي مرض الاكتفاء الذاتي الذي هو الوجه الآخر لانتحار متواصل على نار هادئة.
الخوف الثقافي
إننا مجتمع يخاف من الكتاب الذي يفسد طمأنينته الكاذبة، الذي يحرك جموده، يبعثر إيماناته الثابتة البهتانية. إننا مجتمع يخاف من أغنية تشير إلى أسباب آلامنا وخيباتنا السياسية والاجتماعية، يخاف من فيلم سينمائي يكسر طرفاً من تابوهاتنا المتعددة، من فيلم يحوي قُبلة أو يتحدث عن موضوع المثلية أو عن أوساخنا الداخلية. إننا مجتمع يخاف من قصيدة تكشف جرحاً غائراً فينا منذ خمسة عشر قرناً، دينياً كان أو سياسياً أو اجتماعياً. إننا مجتمع يخاف من مسيحي يؤدي صلاته لربّه العالي بطريقته الخاصة وفي بيت عبادته. إننا مجتمع يخشى يهودياً يلبس قبعته ويأكل لحم الكاشير ويدعو ربه على ما يراه ويرضاه.
إن المجتمعات الخائفة هي الأكثر هشاشة، الأكثر تطرفاً والأكثر عنفاً، إنها المجتمعات التي تنمو فيها ثقافات اللاتسامح.
المجتمع المنافق هو المجتمع الخائف من الآخر، الذي يعيش كابوس “الغيرية”.
المدن التي تعيش فصولها وأيامها ولياليها محاصرة، أبوابها مغلقة في وجه الآخر، في وجه الأجنبي، هي فضاءات بلا روح ولا أحلام ولا مستقبل ولا فرح.
هذا الآخر، هذا الأجنبي الذي لا يشبهنا، المختلف عنا ثقافياً، لغوياً، ذوقياً، في طريقة اللباس، في فن المائدة ومضمونها، هذا الأجنبي هو الذي يمنح حياتنا ومدينتنا معنى لمعنى وجودنا. إنه هو، بوجوده الإيجابي، الذي يفتح عيوننا وبشكل عفوي وطبيعي على آفاق جديدة في الحياة وفي الفرح وفي مقاومة ما هو ناقص وسلبي فينا.
حين تخاف الجامعة من الأجنبي!
تملك الجزائر أكثر من مئة جامعة ومدرسة عليا، في كل مدينة جامعة أو أكثر. وهذا أمر مفرح، جامعات بالتخصصات كلها، من الأدب إلى الطب مروراً بالرياضيات والتكنولوجيا والجيولوجيا وعلم الآثار. وهذا مبهج. لكن، لا مؤسسة واحدة من هذه المؤسسات التي تنتمي فرضياً إلى منظومة الفكر الإنساني والعالمي وتدافع عنها وتنتجها، تملك ضمن قائمة أساتذتها ومؤطريها ومكوِّنيها أستاذاً أجنبياً واحداً! إنها الكارثة! إن الخوف الذي تعيشه الجامعة ونخبها هو الوجه الآخر للخوف السياسي الذي تعيشه النخب السياسية ويعيشه أصحاب القرار الأول. وهو في المقام الأول صورة للخوف الذي يعيشه المجتمع كاملاً.
عندما تكون جامعاتنا بلا أساتذة أجانب، من دون أي متعاون علمي أو تربوي أجنبي، فإن مدرجات الجامعة تصبح شبيهة بقاعات حضانة الأطفال، إن جزأرة الجامعة هو اغتيال لها، أي وضع التعليم العالي في حالة احتضار معلن.
الأمن الثقافي وجه آخر للخوف!
حجة الدفاع عن فكرة “الأمن الثقافي”، تتم زراعة الخوف في الأجيال المتلاحقة. بالتالي، تبرير تجريدها وحرمانها من كنوز الثقافات الأجنبية الإنسانية الكبرى.
إن “الأمن الهوياتي” لا يعني التقوقع في مجتمع الغيتو Ghetto، والعيش في الغيتو هو أشنع وأقسى من العيش في أصعب السجون.
إن “الوطنية المشوهة” التي يتستر بها خصوم الانفتاح على الثقافات الإنسانية الكبرى، بقيمها العالمية النبيلة، هي شوفينية، وهي في المقام الأول عدوّة الوطنية الإيجابية الباحثة عن العيش بسلام وانسجام مع المحيط العالمي.
إن “الأمن الثقافي” لا يعني الانغلاق على الذات، بل إن هذا “الأمن الثقافي” لا يتحقق كخصوصية محلية إيجابية إلا حين ينفتح المجتمع والوطن بمواطنيه الذين يشكلون ثروته البشرية التاريخية على لغات العالم، ويستمتعون بمشاهدة الأفلام التي ينتجها الآخر، ويقرأون الكتب الآتية من أقاصي العالم، ويشعرون بمعنى الشراكة الإنسانية على هذه الأرض. بمثل هذه التعددية، وهذا الاختلاف، يصل المواطن وبشكل طبيعي وعميق إلى فهم معنى خصوصية ثقافته بقيمها التي هي إرث إنساني، ويعرف آنذاك كيف يدافع عنها، وكيف يحافظ عليها، وكيف يوصل الجميل والقيّم فيها إلى الشريك الآخر.
لا يوجد “أمن ثقافي” من دون مثاقفة حقيقية، مثاقفة مستمرة. إن الثقافات، إن بشكل مباشر أو غير مباشر، ظاهري أو باطني، تعيش في حالة من التزاوج والتلاقح والتقاطع والتضايف المستمر.
الخوف على الدين!
إننا نخاف على الدين بشكل هوسي. إن ممارسة الدين والعيش فيه بسلام لا يعنيان محاربة الأديان الأخرى، ولا الاعتداء على المتدينين من العقائد الأخرى.
هذه المدن الجزائرية بكل جمالها، في الشمال والجنوب، بكل تنوعاتها، لا يمشي في شوارعها أو أزقتها أجنبي واحد، أوروبي أو أميركي، إنه منظر مخيف وحزين ومأساوي أيضاً، حين تمشي في شوارع المدينة، فتجد نفسك مكرراً في الآخرين الذين يشبهونك، من الصباح حتى المساء، كما في الصيف كذلك في الشتاء، كما في الخريف كذلك في الربيع، في المقهى وفي المطعم وفي الجامعة وفي المطار، تشعر وكأنك تعيش مع الأشباح الذي أنت واحد منها.
إن وجود الآخر بيننا، ومعنا، هو الذي يوقظ فينا، بشكل عفوي، حس المنافسة الإيجابية، حس المغامرة، هو الذي ينفث فينا روح الغيرة الإيجابية. الغيرية هي التي تولّد الغيرة، والآخر هو الذي يدفعنا إلى نقد حس الاكتفاء الذاتي الكاذب ومحاربة الشوفينية الضيقة. وفي الوقت ذاته، يدفعنا إلى فعل المراجعة التاريخية الفردية والجماعية.
سنصبح “نحن” بكل خصوصياتنا حين نشعر بالآخر شريكاً لنا، ونحن شركاء له. إن الآخر هو بوصلة، هو مرآتنا الصادقة التي تكشف لنا خدوشنا وجمالنا أيضاً.
من دون حضور الآخر تتعمم ثقافة السأم والإحباط.
الخوف من الآخر: أبحث عن أجنبي واحد في شوارع المدن الجزائرية! – بقلم أمين الزاوي