حين يصبح الكاتب ضحية لاحتفاء الغوغاء به – بقلم أمين الزاوي
في زمن غير بعيد، كان لكل قرية مجنونها الذي يجمع في تصرفاته وأقواله ما بين الحكمة والغموض والدروشة، ولا يمكن للقرية أن تتنازل عنه، فهي منه وهو منها ولها، هو رمزية من رمزيات وجودها وتميزها، وتقع مسؤولية التكفل بمجنون القرية أو درويشها على عاتق جميع ساكنة القرية، يأكل من موائدهم ويلبس من ألبستهم ويفرح في أفراحهم ويحزن حين تنزل بالقرية ضارة، وإذا ما غاب أو مات ترك فراغاً كبيراً لا يعوض في الحياة اليومية، وكثيراً ما يتخذ الناس أقواله حكمة أو نبوءة أو تنبّؤاً يفشي أسرار قادم الأيام.
في زمن غير بعيد، كان لكل قرية أيضاً مثقفها وكاتبها وفقيهها ومغنيها وشاعرها ومهرّجها وحانوتيها، وبذلك كانت القرية فضاء يكاد يكون مستقلاً بعالمه، استقلال يقوم على الاكتفاء الاجتماعي والثقافي والفني والأيديولوجي، وترتبط بالقرى الأخرى من خلال التنافس الذي يشكل جزءًا منه منتجو الخيرات الثقافية والفنية والدينية والأيديولوجية.
وفي زمن غير بعيد، كان مثقف الدشرة أو القرية فخوراً بسلطته وسلطانه بين الناس وعلى الناس.
حين كنت صغيراً، ولم أكُن قد تجاوزت السابعة، أذكر ذلك جيداً، حضرت خطاباً لرئيس بلدية قريتنا في تجمع شعبي بمناسبة عيد الاستقلال، لم تكُن قريتي أكثر من تجمع سكني صغير لبعض العائلات التي تعرف بعضها البعض جيداً، وفي هذا التجمع شاهدت للمرة الأولى رئيس بلديتنا وهو يخطب بحماسة شديدة وهو يردد “إن بلديتنا مع فلسطين، وستحرر بلديتنا فلسطين”، وكان الناس الكبار يصفقون فرحين لأن رئيس بلديتهم سيحرر فلسطين.
رئيس البلدية هذا، بكل صدقه الساذج وعفويته الشعبوية، يشبه الكاتب أو المثقف المحلي الذي تختلط عليه الأدوار، فيصبح يخلط ما بين موقعه وموقع الآخرين، يلعب لعبة قارة وهو في دور لا يتجاوز حدود الدشرة، رئيس البلدية هذا، في خطابه الداعي إلى تحرير فلسطين، بنيّة طيبة ولا شك في ذلك، لكن الأعمال ليست بالنيّات، الأعمال بالاستراتيجية والإدراك والتحليل، رئيس البلدية هذا يشبه الكاتب المحلي الواقف في طابور متسابقي المئة متر ويحاول أن يسابق متنافسي رواق العشرة آلاف متر.
السلطان بالتاج ويحتاج
“السلطان بالتاج ويحتاج”، هكذا يقول المثل السائر، وبالفعل لا يزال السلطان في مركز القرار بحاجة لسلسلة من البيادق المحلية كي يمرّر رسائله إلى الرعية، فلا يجد أفضل من المثقف أو الكاتب المحلي لأداء هذه المهمة على أكمل وجه.
يحتاج منتجو الأيديولوجيا في المركز وصانعو الوهم والخوف واللاعدل والأحزاب والمؤسسات الدينية والمؤسسات القمعية وأصحاب المال إلى المثقف المحلي كي يكون لسانهم في المكان الذي هو فيه، ومن حيث هو، أي يوصل رسائلهم إلى الرعية أو الرعاع أو العامة على طريقته الخاصة الساخرة مرة والمتأخلقة مرة أخرى والمتعالمة ثالثة.
لا مجتمع من دون كاتب أو مثقف محلي، فهو في موقعه بالهامش يلعب دور الإسمنت الذي يشدّ أسوار الأيديولوجيا التي يصدرها المركز.
ليس عيباً أن يكون الكاتب محلياً، وليس كل كاتب عالمي له مثل هذه العبقرية المحلية، إنما العيب في أن يكون هذا المثقف المحلي لا يعي حدود الدور المنوط به، لذا بمجرد أن يخرج المثقف أو الكاتب المحلي عن دوره ويشرع في تقليد كتّاب آخرين درجت أسماؤهم أو أعمالهم في خانة أخرى، تتراجع رمزيته ويفقد وزنه الشعبوي.
وكما يخفق الكاتب المحلي في مهمته حين يخرج عن القواعد التي تحكم آليات الكتابة للمحلي، وفي الوقت ذاته يخفق الكاتب العالمي حين يريد أن يؤدي دور الكاتب المحلي، فيصبح انتهازياً شعبوياً.
ولأن الكاتب العالمي يخاطب شرائح واسعة من القراء، أبعد من مساحة القرية ومن معتقدات القرية ومن عقيدة ناس القرية، نجده كثيراً ما يكون غير مرغوب به في قريته، بل قد يُكفّر ويُزندق ويُخوّن.
بين الكاتب المحلي والكاتب العالمي لا توجد مقارنة ولا تنافس بل هناك تكامل، كل واحد يلعب في ملعبه الخاص به، من حيث القراء والعلاقات التي ترتبط بنصوص هذا وذاك، فإذا كان الكاتب المحلي هو منتج نصوص تعيش في القرية أو الدشرة التي يقيم بها أو المؤسسة التي يأكل منها خبزه أو في أبعد الحدود بلاده، فإن الكاتب العالمي قد يأخذ من الكاتب المحلي هذه الشعلة المحلية ويحوّلها إلى شعلة أولمبية.
تظل نصوص الكاتب المحلي واحدة من مرجعيات الكاتب العالمي، فنصوصه على بساطتها ومرات سذاجتها وعفويتها وانتهازيتها تدخل وتسكن نصوص الكاتب العالمي بطريقة خاصة وبرؤية فلسفية أخرى.
الغوغاء فخ الكاتب المحلي
إذا ما تمكّن الكاتب المحلي من التحرر من سلطة الغوغاء والعامة التي تصفق له وتجرّه إلى كثير من المواقف الانتهازية التي لا تُحمد عقباها، على المستوى السياسي والديني والأخلاقي، إذا ما تمكّن الكاتب المحلي من تحقيق هذه القفزة، فبمقدوره أن يمنح نصوصه بعداً إنسانياً عالمياً، لكن هذه العملية ليست بالأمر الهيّن، فأكبر سجن للمثقف المحلي هي اتباع هوى الغوغاء.
قد يسهل على الأنظمة السياسية والدينية استعمال الكاتب المحلي وتوظيفه في هذا الاتجاه أو ذاك، لأن وجوده الأدبي مراقب فقط من قبل القرية التي يمكن استدراجها، لكن من الصعب التحكم في كاتب عالمي، أو على الأقل العملية ليست هيّنة، لأن عيوناً كثيرة من كل العالم تراقب مواقف هذا الأخير وتحاسبه على ذلك.
إن الشاعر آيت منقلات نموذج لمثل هذه الحالة المحلية-العالمية، فبقدر ما هو الكاتب والشاعر المرتبط بالفضاء المحلي القبائلي إلا أنه ومن خلال تحرّره من ضغط العامة، استطاع أن يسقط أسوار المحلية ليتحوّل المعنى المحلي إلى قيمة إنسانية من خلال التموقع في الأبعد، في الفلسفات الإنسانية الكبرى.
في التاريخ الأدبي، هناك متنبٍّ واحد، ولكن في زمن المتنبّي الواحد هذا، عاش آلاف الشعراء الذين ربما كان لهم حضور محلي متميز لكنهم ظلوا في الظل، ومع مرور الأزمنة سقطوا من الذاكرة التاريخية الأدبية، ومن دون شك فالمتنبّي، كما محمود درويش، كان يستفيد من نصوص هؤلاء الشعراء المحليين. وفي التاريخ السردي الفكري، هناك معرٍّ واحد، ولكن هناك إلى جانب هذا المعرّي الواحد عشرات بل آلاف الكتاب الذين سقطوا من الذاكرة لأن كتاباتهم كانت تخاطب قارئاً معيناً وربما تريد أن تستجيب لرغبة هذا القارئ المحلي.
ليس جميع الكتّاب العرب من قامة جبران خليل جبران أو أدونيس أو نجيب محفوظ أو محمود درويش أو نزار قباني أو الماغوط أو غادة السمان أو الطيب صالح أو جبرا إبراهيم جبرا أو عبد الرحمن منيف أو حنا مينة أو محمد شكري أو محمد خير الدين أو الطاهر بن جلون أو عبد الكبير الخطيبي أو محمود المسعدي أو الشابي أو علي الدوعاجي أو البشير خريف، ولكن هناك آلاف من الكتاب في المداشر والقرى والمدن، من بغداد مروراً بدمشق ووصولاً إلى مراكش، يكتبون ويُحتفل بهم على هذا النطاق المحلي بكثير من الاحترام، وهم حاضرون ربما أكثر من حضور الأسماء المذكورة أعلاه، لكن تأثيرهم لا يتعدى جغرافيا ضيقة ومجموعة بشرية ضيقة أيضاً.
في أميركا اللاتينية، هناك كاتب واحد اسمه غارسيا ماركيز، كاتب واحد اسمه بابلو نيرودا، كاتب واحد اسمه هاستورياس، كاتب واحد اسمه بورخيس… هي أسماء بالمفرد-الجمع، لكن لا شك في أن بزمنهم الأدبي هذا، هناك عشرات بل المئات من الكتاب المحليين الذين يؤثرون في مجتمعاتهم ولكنهم لا يؤثرون فينا نحن، ربما يؤثرون فينا من خلال تأثيرهم في هذه الأسماء المفردة الكبيرة.
إن الحياة الأدبية لا يصنعها الكتاب العالميون فقط بل هي ساحة للكتابة المتعددة وللأدوار المختلفة، فليس كل الكتّاب مولود معمري أو كاتب ياسين أو محمد ديب أو آسيا جبار أو بوعلام صنصال… ولكن وجود هؤلاء لا يلغي وجود كتّاب يكتبون ولهم قراء ويُحتفى بكتبهم في قراهم ومدنهم وبلدانهم ودشورهم، هؤلاء الكتاب يبدعون لقارئ آخر، قارئ محلي له أحلامه وله رمزيته، ولكن فقط يجب ألّا تختلط الأدوار.