لا أزال أتذكر تلك السهرات الصيفية في كازينو “صدر القناة” على حافات نخيل بغداد مطلع السبعينات. كنا صغارا ولكننا كنا ننتظر الحفل الأسبوعي للمطرب العراقي إلهام المدفعي. تمكن المدفعي من استقطاب اهتمام العراقيين بمغامرته في إعادة غناء الكثير من التراث العراقي القديم وبعض الجديد بتوزيع غربي مفرح. لا يمكن وصف مسحة الحزن في الغناء العراقي لأحد لأنها ملموسة دائما.
كسر المدفعي القاعدة تماما، وحول الأغاني إلى شيء يمكن أن تسمعه في أي وقت وأن يجد الشباب ما يجعلهم يرقصون أو يدبكون عليه. لحقت به المطربة سيتا هاكوبيان ببعض من التراث والكثير من الجديد المختلف.
أعطى المدفعي روحا جديدة للكثير من الأغاني العراقية. لم يكتف بالتراث، بل غامر بإعادة توزيع أغاني المطرب ناظم الغزالي الذي رحل قبل مرحلة المدفعي بسنوات قليلة. البعض لم يسمع أغنية “فوق النخل”، أو “فوق إلنا خل” كما يقول عنها البعض، إلا من إلهام المدفعي ليكتشف أنها للغزالي لاحقا. وفي التسعينات عاد المدفعي ليحيي الحفلات في العراق وخارجه ليصبح أيقونة من أيقونات النغم العراقي. الكثير من المطربين العراقيين والعرب يعيدون غناء تلك الأغاني بتوزيع المدفعي وليس بتوزيعها وإيقاعها الأصليين.
هذا الإحياء للتراث أو إعادة إنتاج الغناء القريب والحديث شيء مهم وضروري. إنه أشبه بإعادة تقديم الروايات مسرحيا أو سينمائيا لتتناسب مع عقليات وطبيعة أجيال متعاقبة في المجتمعات. هذا شيء صحي.
هذا الإحياء متداول في الغرب أيضا ولا يعبر عن عجز الفن عن الإتيان بجديد. أغنية كنائسية مثل “لا تجعلني أبدو وقد أسيئ فهمي” للمطربة السوداء نينا سيمون أعيد تقديمها مرات بإيقاعات مختلفة، بل بعد سنة من إطلاقها أول مرة في الستينات من قبل فريق ذي انيملز، وفي السبعينات لفريق سانتا ايزميرالدا.
اليوم تهجم علينا المطربة الأميركية شير بإعادة تقديم أغاني فريق آبا السويدي. آبا كان الفريق الغنائي الأشهر في السبعينات ولعله إلى يومنا يعد الفريق الأنجح في تاريخ الغناء الغربي رغم تقاعد أفراده منذ عام 1981. صنع المسرحيون الغنائيون والسينمائيون مسرحية وفيلما عن فريق آبا. مسرحية “ماما ميا” الغنائية تعرض يوميا في صالات مسارح لندن منذ عام 1999.
نجاح المسرحية المذهل حولها إلى فيلم “ماما ميا” الذي صار يحجز توقيتا معادا في الآلاف من محطات التلفزيون حول العالم منذ إنتاجه عام 2008. كان العالم ينتظر “ماما ميا – مرة أخرى” وهو الجزء الثاني من الفيلم، لكن المفاجأة الأكبر جاءت بتقديم المطربة شير لأغاني آبا من جديد بطريقة وتوزيع مختلفين صنعت خصيصا للفيلم.
شير ظاهرة قائمة بنفسها. تغني منذ كان عمرها 17 سنة وتجاوزت اليوم عمر الـ71. شيء متدفق ومغامر. أغانيها تربعت على قائمة الأغاني الرائجة لسنوات وسنوات. في الوقت الذي حان لها فيه أن تتقاعد، ها هي تعيد إحياء أغاني آبا بطريقة مذهلة وجميلة.
نصفق لشير في الغرب ولإلهام المدفعي في الشرق. كبرا بالعمر لكنهما يستطيعان تحريك أجيال الشباب كما لو أنهما في العشرينات.
صحيفة العرب