لا يكف د. صلاح نيازي، وهو الآن في الثمانينات، عن العمل. وخلال السنوات العشر الأخيرة، راكم إنتاجاً غزيراً يجمع بين النقد والترجمة والدراسات والشعر.
آخر إصدارته «فواخت باب الطاق» (دار المدى) شيء مختلف. عبر سنوات، ظل يلتقط من هذه المطبوعة أو تلك قطعة ما، ومن هذا الكتاب أو ذاك قصة منسية، ومن الزوايا المنسية شهادات عن ذلك البلد الذي لا يكف عن الألم.
ألم يمتد طويلاً في الزمن، ودم لا يريد أن يتخثر، وكأنه عجن مع طينه منذ الخلق، ودمع لا يكفكف، ونار لا تخمد. قصص تعيد إنتاج نفسها منذ الأزل، يسكنها الحزن العراقي الذي يورثه جيل لجيل، والوجع التاريخي الذي يتناسل في الشوارع. لم تنته القصص بعد. فمنذ أيام فقط، غسل القتلة إسفلت شوارع البصرة وبغداد بالدم الفتيّ الفوار. هكذا، ببساطة، تحت ضوء الشمس الحارقة. إنه القتل مرة أخرى. القتل الذي لا يكف عن عمله.
وحتى لا ننسى يوماً ما، في عصر ما، يجمّع صلاح نيازي قصصنا، لنقرأها مرة أخرى، على الرغم من أننا كتبناها، لكنا نسينا. نسينا ما كتبنا، بعد سنوات قليلة فقط.
نقرأ في الكتاب شهادات لأولئك الذين حلموا بعراق آخر، أحلاماً بسيطة، أصغر من العصافير. يقول قاسم جبارة، في رسالة انتحاره في منفاه النمساوي عام 1987، التي بعثها لصديقه القاص سعيد فرحان: «ماذا تفعل هنا؟ كل مرة أسأل نفسي فيها عندما أترك السرير. إن جميع أحلامنا قد ضاعت إلى الأبد… الأحلام كلها يا ابن فرحان: أن نؤسس مشغلاً للأطفال، أن نصمم مساكن جديدة للفقراء وفرقاً مسرحية تدور القرى… أن نكتب حكايات أمهاتنا الطيبات، أن نضع أشعاراً وكتابات ورسوماً لأحزاننا وأفراحنا ونعيش في بلد هادئ».
ومن سجون صدام، يسجل لنا د. قاسم البريسم شهادته الشخصية، التي نختار منا، أقلها بشاعة رحمة بأعصاب القارئ: «أذاع المسؤول قائمة مرشَّحة للموت، كان اسمي أحدهم. اصطف الجميع خارج القاعة تحت رحمة رقابة العيون الشزرة، الغاضبة، وحراب الحراس المتأهبة للقتل. سرنا في قافلة، وكنت أقيس لحظات الزمن المتبقية بخطواتي المتعثرة، وأستحضر كل القصص الخيالي في وسائل التعذيب المعلن والسري (الإبر التي يزرق بها البعض، وحضرت مشهدها في أمن البصرة، ولا يحتاج الضحية إلى وقت طويل كي يموت)».
وفي شهادة لكاتب هذه السطور عن «صناعة» مقبرة جماعية، ننتقل من الموت في السجون المعتمة إلى الموت المعلن في الساحات العامة تحت ضوء الشمس:
«في صباح مشمس من صباحات 1991، دعا داع عبر مكبرات الصوت، الشباب من 18 إلى 45 سنة للتجمع في ساحة المدينة العامة. كان نداء واحداً في السدة والمحاويل والحلة. كانت هناك سيارات كبيرة بانتظارهم. انطلقت السيارات المغلقة بحمولتها البشرية. وبعد بضعة كيلومترات توزعت إلى موكبين، دخل كل منهما ممراً ترابياً إلى اليسار من الطريق العام إلى الحلة. ألقت السيارات حمولتها في حفر أُعِدَّت على عجل، وأهيل التراب على الأجساد الشابة الحية. لم يشهد المأساة أحد. سوى باص عابر سيئ الحظ.
عثر بعد سقوط صدام على هذا الشاهد الوحيد، الميت للأسف، بكامل هيئته وركابه فوق مقاعدهم وكأنهم بانتظار أن ينطلق الباص بعد حين. ظلوا منتظرين هناك إلى الأبد».
لم ينته القتل في العراق تحت ضوء الشمس بعد. بدل ملابسه فقط.
آخر إصدارته «فواخت باب الطاق» (دار المدى) شيء مختلف. عبر سنوات، ظل يلتقط من هذه المطبوعة أو تلك قطعة ما، ومن هذا الكتاب أو ذاك قصة منسية، ومن الزوايا المنسية شهادات عن ذلك البلد الذي لا يكف عن الألم.
ألم يمتد طويلاً في الزمن، ودم لا يريد أن يتخثر، وكأنه عجن مع طينه منذ الخلق، ودمع لا يكفكف، ونار لا تخمد. قصص تعيد إنتاج نفسها منذ الأزل، يسكنها الحزن العراقي الذي يورثه جيل لجيل، والوجع التاريخي الذي يتناسل في الشوارع. لم تنته القصص بعد. فمنذ أيام فقط، غسل القتلة إسفلت شوارع البصرة وبغداد بالدم الفتيّ الفوار. هكذا، ببساطة، تحت ضوء الشمس الحارقة. إنه القتل مرة أخرى. القتل الذي لا يكف عن عمله.
وحتى لا ننسى يوماً ما، في عصر ما، يجمّع صلاح نيازي قصصنا، لنقرأها مرة أخرى، على الرغم من أننا كتبناها، لكنا نسينا. نسينا ما كتبنا، بعد سنوات قليلة فقط.
نقرأ في الكتاب شهادات لأولئك الذين حلموا بعراق آخر، أحلاماً بسيطة، أصغر من العصافير. يقول قاسم جبارة، في رسالة انتحاره في منفاه النمساوي عام 1987، التي بعثها لصديقه القاص سعيد فرحان: «ماذا تفعل هنا؟ كل مرة أسأل نفسي فيها عندما أترك السرير. إن جميع أحلامنا قد ضاعت إلى الأبد… الأحلام كلها يا ابن فرحان: أن نؤسس مشغلاً للأطفال، أن نصمم مساكن جديدة للفقراء وفرقاً مسرحية تدور القرى… أن نكتب حكايات أمهاتنا الطيبات، أن نضع أشعاراً وكتابات ورسوماً لأحزاننا وأفراحنا ونعيش في بلد هادئ».
ومن سجون صدام، يسجل لنا د. قاسم البريسم شهادته الشخصية، التي نختار منا، أقلها بشاعة رحمة بأعصاب القارئ: «أذاع المسؤول قائمة مرشَّحة للموت، كان اسمي أحدهم. اصطف الجميع خارج القاعة تحت رحمة رقابة العيون الشزرة، الغاضبة، وحراب الحراس المتأهبة للقتل. سرنا في قافلة، وكنت أقيس لحظات الزمن المتبقية بخطواتي المتعثرة، وأستحضر كل القصص الخيالي في وسائل التعذيب المعلن والسري (الإبر التي يزرق بها البعض، وحضرت مشهدها في أمن البصرة، ولا يحتاج الضحية إلى وقت طويل كي يموت)».
وفي شهادة لكاتب هذه السطور عن «صناعة» مقبرة جماعية، ننتقل من الموت في السجون المعتمة إلى الموت المعلن في الساحات العامة تحت ضوء الشمس:
«في صباح مشمس من صباحات 1991، دعا داع عبر مكبرات الصوت، الشباب من 18 إلى 45 سنة للتجمع في ساحة المدينة العامة. كان نداء واحداً في السدة والمحاويل والحلة. كانت هناك سيارات كبيرة بانتظارهم. انطلقت السيارات المغلقة بحمولتها البشرية. وبعد بضعة كيلومترات توزعت إلى موكبين، دخل كل منهما ممراً ترابياً إلى اليسار من الطريق العام إلى الحلة. ألقت السيارات حمولتها في حفر أُعِدَّت على عجل، وأهيل التراب على الأجساد الشابة الحية. لم يشهد المأساة أحد. سوى باص عابر سيئ الحظ.
عثر بعد سقوط صدام على هذا الشاهد الوحيد، الميت للأسف، بكامل هيئته وركابه فوق مقاعدهم وكأنهم بانتظار أن ينطلق الباص بعد حين. ظلوا منتظرين هناك إلى الأبد».
لم ينته القتل في العراق تحت ضوء الشمس بعد. بدل ملابسه فقط.
جريدة الشرق الاوسط