كان يوم العاشر من سبتمبر عام 1958 يوماً حزيناً في دبي. في هذا اليوم لبست دبي ثوب الحداد، وانفطرت قلوب أبنائها لرحيل حاكمهم الشيخ سعيد بن مكتوم بن حشر، الذي امتدت فترة حكمه للإمارة 46 عاماً، وكان يضرب به المثل في العدل والورع والتقوى. إلا أن قلوبهم سرعان ما استعادت طمأنينتها وهم يرون ابنه الشاب؛ الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، الذي كان سنده وعضده في تجاوز الأزمات، يتولى مقاليد الحكم في إمارتهم الحبيبة، مفتتحاً بذلك عهداً جديداً من النهضة والنماء والتقدم.
كان حفلاً مهيباً ذلك الذي أقيم لتنصيب الشيخ راشد حاكماً لإمارة دبي في الرابع من شهر أكتوبر عام 1958. أتت الوفود من كل مكان لتشهد مراسم تنصيب الحاكم الجديد وتبارك له، وجاء حكام الإمارات الأخرى وأفراد من الأسر الحاكمة، سيكونون في ما بعد من المؤسسين لدولة الاتحاد. ومن بين الذين جاؤوا ليشهدوا حفل التنصيب، أطل وجه حاكم العين الشاب آنذاك؛ الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، الذي سيكون هو ورفيق دربه الشيخ راشد المؤسسين لهذه الدولة التي نعيش في كنفها الآن؛ دولة الإمارات العربية المتحدة.
كان الشيخ راشد أول حاكم تقام له مراسم تنصيب رسمية بدأت باستقبال المدعوين، ثم ألقى المقيم السياسي البريطاني في الخليج، السير برنارد بوروز، كلمة بالنيابة عن الحكومة البريطانية. وقام الشيخ مكتوم بن راشد بإلقاء خطاب، كان هو الخطاب الرسمي الأول له قبل أن يصبح ولياً لعهد الإمارة، بينما ألقى الشاب ماجد بن أحمد الغرير كلمة نيابة عن الأهالي، وكان لحرس تشريفات الشرطة، التي كانت قد تأسست قبل ذلك على يد الشيخ راشد، تكريم امتد عبر الإمارة، بينما قام أفراد من القوات البحرية البريطانية، من على متن الفرقاطة البريطانية الملكية لوتش إنش، بإطلاق خمس قذائف مدفعية، احتفاء بتنصيب حاكم دبي الجديد، ليبدأ عهد جديد في إمارة دبي، سيكون له شأنه، ليس في تاريخ دبي فقط، وإنما في تاريخ المنطقة، التي ستشهد بعد أعوام ولادة كيان جديد، على يد زايد وراشد، هو دولة الإمارات العربية المتحدة، التي أثبتت على مدى 47 عاماً، هو عمرها، أنها أنجح خطوة وحدوية عربية في التاريخ الحديث.
واحتفاء بمرور 60 عاماً على تنصيب الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم حاكماً لإمارة دبي، أطلقت هيئة الثقافة والفنون في دبي، يوم الخميس الماضي الموافق للرابع من شهر أكتوبر، كتاباً يوثق سيرة هذا القائد والحاكم الفذ، الذي استطاع أن يضع دبي على خارطة المراكز الاقتصادية والتجارية الكبرى، تحت عنوان «راشد.. قائد استشرف المستقبل». وفي هذه المناسبة نظمت الهيئة جلسة حوارية تحت عنوان «مسيرة قائد». شارك فيها كل من الفريق ضاحي خلفان تميم، نائب رئيس الشرطة والأمن العام في إمارة دبي، والدكتورة رفيعة غباش، مؤسسة «متحف المرأة» في دبي، وكان لي شرف إدارة الجلسة.
كان أول ما لفت نظري في عنوان الكتاب هو «استشراف المستقبل». هذه العبارة التي تُعتبَر مصطلحاً حديثاً طرق آذاننا في السنوات الأخيرة، فهل عرف الشيخ راشد فعلاً هذا المصطلح وطبقه؟ وإلى أي مدى نستطيع القول إنه كان قائداً استشرف المستقبل بمفهومه الحديث؟
إن المتتبع لمسيرة الشيخ راشد يستطيع أن يلمس بشكل ملفت للنظر كيف كان يفكر ويخطط، وكيف كان يضع المستقبل أمامه قبل أن يقدم على أي خطوة أو يتخذ قراراً. حدث هذا في مواقف كثيرة، منها على سبيل المثال عندما قرر إنشاء ميناء «جبل علي» في منطقة كانت تُعتبَر آنذاك بعيدة، الأمر الذي اعتبره الكثيرون قفزة في الهواء غير مأمونة المخاطر. لكن الشيخ راشد أصر على المضي في مشروعه، وثبت بعد ذلك أنه أفضل مشروع اقتصادي حيوي في العالم العربي، مثلما وصفه أحد الاقتصاديين اليابانيين الخمسة الكبار، كان في زيارة لدبي على رأس وفد اقتصادي ياباني، وفقاً للرواية التي أوردها الفريق ضاحي خلفان في الجلسة الحوارية، نقلاً عن رجل الأعمال ماجد الفطيم.
لقد حرص الشيخ راشد، عليه رحمة الله، على أن يحيط نفسه في مجلسه، ليس فقط بمن يتمتعون بالذكاء والحكمة والرؤية الثاقبة، وإنما بأشخاص يستطيعون أن يقدموا له النصيحة السديدة عند الحاجة. وكان مجلسه أقرب ما يكون إلى برلمان مفتوح، يناقش فيه مع أصحاب الرؤى المستنيرة، ومع الخبراء وأصحاب الاختصاص، مختلف المواضيع التي تهم البلد، ليخرج بقرارات سليمة تخدم الوطن والمواطن، فقد تعلم أن العمل بالشورى أحد أهم الجوانب لحكمٍ وإدارة متطورَين. كان لا ينام أكثر من خمس ساعات في اليوم والليلة، فقد كان يبدأ نشاطه من الساعة الخامسة فجراً، ويواصل العمل 19 ساعة، مثلما يفعل الآن ابنه؛ صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، وكأنها جينات موروثة. وفي السابع من شهر أكتوبر 1990 انتقل الشيخ راشد إلى الرفيق الأعلى بعد مسيرة حافلة بالإنجازات.
سوف يتحدث التاريخ طويلاً عن الشيخ راشد، القائد الذي استشرف المستقبل، وسوف يكتب الكثيرون عنه، لكن أصدق الكلمات وأروعها هي تلك التي وصف بها صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم والده حين قال: «الشيخ راشد أبي، ومعلمي، وقدوتي، ومدرستي التي تعلمت فيها المبادئ والقيم والأخلاق والإدارة والقيادة. وأهم ما تعلمته منه حب الناس، وحسن معاملتهم».
جريدة الاتحاد