الأبدان العربية، خصوصاً في لبنان، اقشعرّت عندما استهلّت وزيرة خارجية النمسا كارين كنايسل خطابها أمام الجمعية العامّة للأمم المتّحدة (السبت 29 سبتمبر/ أيلول 2018) باللغة العربيّة التي درستها في فيينا، وتابعتها في لبنان. ذكّرتنا بلغتنا إذ برّرت عربيّتها بكلمات حنونة هطلت مطر أيلول فوق البيادر العربيّة المشقّقة على عتق اليباس.
قالت العربيّة جميلة، ومهمّة، وواحدة من 6 لغات رسمية في الأمم المتحدة، وهي جزء من الحضارة العربيّة العريقة.
يبقى السؤال لماذا الإنجليزية؟ مع أنّ الأمريكيين يتعلّمون الصينية، ويتقن الشباب أكثر من لغة، محطّمين فكرة النبوغ والعظمة لمن ألمّ بلغتين فيتصدّر الناس.
أخرج بكلمتين:
1- إنّ معظم الحكّام في العالم الذين نسمع، أو لا نسمع بهم، لا يملكون ويتفاصحون إلاّ بلغتهم الأم.
2- أطلقت كوندوليزا رايس وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة في ال2006 مساعدات لسفراء وقناصل أمريكا في العالم إن أقبلوا على تعلّم العربيّة.
لا مغالاة في الافتراض أن مقولة عالمية اللغة الانجليزية مسألة سلطة تقنيّة هائلة توفّر إمكانية تعداد سكّان العالم وملفّاتهم عبر تتبّع المبحرين المتحصنين بهواتفهم وشاشاتهم، ويبحثون بنَهم عن الثقافة العادلة والتواصل الحرّ. من يدخل الشاشة سرعان ما يعجن في منظومتها ثقافياً، ولغوياً، لا بالمعنى الكوني، بل الانجلو ساكسوني، كي لا نقول الأمريكي. هناك 87 في المئة من المبحرين في الإنترنت من بلاد إنجليزية الثقافة. وللعلم، فإن شبكة المعلومات التي صنعت في مختبر أوروبي لفيزياء الجزئيات في جنيف (CERN) وضعت في الاستخدام أساساً في أمريكا حيث الإنجليزية اللغة الوحيدة المفهومة من الجميع. ولأسباب متداخلة تقنية سياسية قيادية، بدت اللغة الانجليزية عالمية يصعب جداً، ولا يستحيل، إنشاء الشبكات إلا بها.
لماذا؟
لأن المنظومات الثلاث التي جاءت في أعقابها رسختها لغة ثابتة للدنيا بالمعنى التقني:
أ – منظومة (American Standard Code For Information) ASCFI وهي لا تقبل في تبادل المعلومات إلاّ الترميز الأمريكي الذي يعتمد سلسلة محددة من الأحرف الضرورية الخاصة باللغة الإنجليزية. إنّها منظمة تقوم على 7 bits وليس ثمانية، كما هو شائع ومعروف. ومعظم الحواسيب الأمريكية الصنع مجهزة عن عمد، بما يعادل 7 bits. وبهذا تسقط مجموعات من الحركات الخاصة باللغات اللاتينية الأخرى مثل (~/ ç) وهو ما يظهر واضحاً في البريد الإلكتروني الذي يغري المبحرين في الإنترنت باستعماله الذي حصر بهذه المنظومة.
ب – منظومة MIME (Multilingual Internet Mail Extension) تسمح بنقل أيّ نص، بأيّ أحرف، ووفق أي لغة، لكنّها منظومة فشلت في غزوها للأسواق العالمية. والسبب أن مستعمليها لا يمكنهم سلفاً معرفة الحاسوب الذي يستعمله المرسل إليه الذي يتصلون به إن كان جهازه قادراً على فك رموز ASCFI الطاغية على الأسواق.
ج – منظومة (World Wide Wep) WWW وهي تابعة لمعيار Iso Latin أي المنظومة العالمية للتطبيع اللغوي الشائعة في العالم، والقادرة على تمثيل أربع عشرة لغة محكية في أربعين بلداً، منها الروسية، واليونانية، والعربية، واليابانية، لكن الإنجليزية هي المتقدمة والطاغية.
ويمكنني الجزم بأن الإنجليزية ليست قدراً، ولا مانع هندسياً من استعمال أية لغة. لكن الأساس هو إيجاد المعايير الدولية والوسائل التي يمكننا وضعها، وفرضها في الأسواق موضع الاستعمال، وهو أمر صعب وضعت أسسه السلطة اللغوية الإنجليزية الراهنة التي تخرج عن هذه المعايير كلّها، أو محاولات ضبطها.
د – لعبة الأحرف العالمية JUC نشرت المنظمة العالمية للتطبيع اللغوي ISO معيار لعبة الأحرف العالمية، معترفةً بوجود لغات أخرى مختلفة، لكن صعوبات حصرية تقنية أمريكية حالت دون النشر بغير الإنجليزية، لأنّ تكاليفها الباهظة وانخفاض عدد مستعمليها في العالم فرضا اللهاث وراء الإنجليزية، الأمر الذي لم يشجع على إيجاد الأجهزة اللازمة لاستعمال هذه اللغات.
وقادت فرنسا العالم لرفع حصار الإنجليزية عبر فكرة الأوبلف الأولف AUPELF AULUF الفرانكوفونية، وفشلت، ليعلن رئيس وزرائها ليونيل جوسبان (1999) «إن الإنجليزية لغة العالم، وإذا كان غزوها في خدمة الإنسان، فأنا مع هذا الغزو».
وتخطّت اليابان المشكلة فاستطاعت، على الرغم من أنّ الحروف اليابانية أكثر صعوبةً من العربية، في استخدام لغتها على الإنترنت. وبدا العرب غير مهتمّين بتطوير العربية على الإنترنت، وبقي العصر يتماهى في سلوك شعوبه، وحكوماته، وثقافاته، مع الحياة والثقافة الأمريكية بشكل ظاهر، بما جعل القرن الراهن أمريكي التوجه والملامح لكنّه يبحث عن التحوّل.
شكراً لوزيرة الخارجية النمساوية من أعلى منبر عالمي تتهالك فوقه السلطات.
جريدة الخليج