في كتابه الشهير الذي يعود إلى الربع الأول من القرن العشرين «الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية» يقدّم عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر واحداً من أفضل التفسيرات التي جاء بها العلم، لقضية الازدهار المالي والعملي ثم الفني بالتأكيد، الذي عرفته، على مدى تاريخ نصف الألفية الأخير، البلدان التي اعتنقت البروتستانتية. وهو التفسير ذاته الذي يبني عليه الباحث سيمون شاما، هيكل كتابه «حيرة الأثرياء» الذي يتحدث بخاصة عن الكيفية التي تراكمت الرساميل بها، في هولندا والفلاندر منذ القرن السادس عشر، في ضوء ازدهار النزعة الإنسانية، والاهتمام البروتستانتي بقضايا المال والسوق ورأس المال. بالنسبة إلى فيبر، وشاما، ارتبطت النزعة الرأسمالية بولادة النزعة الإنسانية خلال تلك المرحلة بالتحديد. فيومذاك، هبط الإنسان من علياء الروح والقضايا الكبرى، إلى دنيا الأعمال والحياة المرفهة، تاركاً – تبعاً لنصيحة السيد المسيح – «ما لقيصر لقيصر وما لله لله».
> والحال أن جزءاً كبيراً من النتاج الفني الذي ولد في تلك البلدان، خلال المرحلة التاريخية ذاتها، إنما جاء ليؤكد هذا البعد. ويتجلى هذا خصوصاً في لوحات انتقل بها الفنانون الكبار من رسم الموضوعات الدينية واللوحات ذات السمات الأرستقراطية ومشاهد حياة الملوك وكبار سادة البلاط، إلى رسم الموضوعات الدنيوية. بل، أحياناً، الموضوعات التي تعبّر مباشرة عن ذلك التبدّل الأساس الذي طاول الذهنيات وبدّل من مسيرة مجتمعات بأسرها. ونعرف من خلال دراسة تلك المرحلة من عمر الشمال الأوروبي الذي كان، حول البلاد الواطئة، المعني في شكل خاص بتلك التبدّلات الاقتصادية والاجتماعية، أن كل ذلك قد أدى بالتالي إلى ولادة الرأسمالية جنباً إلى جنب مع النزعة الإنسانية. بحيث إن الانشقاق البروتستانتي الذي سيقود الإصلاح المناهض للكنيسة البابوية، والذي أدى إلى حروب طاحنة ومجازر من الجيّد أن أوروبا نسيتها اليوم؛ حيث يبدو ما يحصل في أيامنا هذه من تنازعات «دينية» أشبه بلعب أطفال مقارنة بها. غير أن هذا ليس موضوعنا هنا. ما يعنينا منه هو فقط أن الانشقاق البروتستانتي، إذ أتى كتعبير أيديولوجي/ ديني عن ذلك كله، كان من شأنه بالتالي أن يؤثر في كل الجوانب الأخرى للحياة الاجتماعية بما في ذلك فن الرسم بين فنون أخرى.
> من هنا، لئن كان تاريخ فن الرسم في هولندا والفلاندر، قد امتلأ منذ القرن الخامس عشر، بفنانين جعلوا من التعبير عن الحياة اليومية همّهم الرئيس، أو واحداً من همومهم الرئيسية، فإن في الإمكان تسمية واحد من هؤلاء الفنانين، بصفته رائداً في مجاله، ونعني به كوينتن ماتسيس الذي كان أشبه بحلقة وصل بين عوالم المؤسس الرائد فان آيك، وإنتاجات فيرمير دي دلفت بصفة هذين، عبر ارتباط كل منهما مع زمنه، القطبين اللذين تتحرك بين زمانيهما (القرن الرابع عشر بالنسبة إلى الأول والسابع عشر بالنسبة إلى الثاني)، تلك المرحلة التي شهدت ازدهار الفن الهولندي وبالتالي الفن الدنيوي الذي عبّر عن صعود طبقة اجتماعية بأسرها قُيّض لها أن تبني العالم الغربي بعد ذلك، وتُحدث ثوراتها واحدة بعد الأخرى.
إذ نقول هذا، ونحدّد مكانة ماتسيس على هذا النحو، يجدر ألا يغرب عن بالنا أن الرجل، مثل غيره من كبار الرسامين الأوروبيين في زمنه وفي الأزمان التالية، أمضى الشطر الأكبر من حياته وهو يرسم الموضوعات الدينية، لكنه عندما استقر منذ عام 1491 في آنفير وصار معلماً كبيراً من معلمي الرسم فيها، راح يتجه صوب الأفكار الإنسانية تحت تأثير الأجواء السائدة هناك في ذلك الحين. ويروى أن منزله الأنيق الذي كان يضم محترفه، شهد لقاءات متواصلة كانت تجمع كبار المفكرين الإنسانيين وعلى رأسهم إرازموس وبيار جيل. وهناك، ومن المؤكد أنه وسط سجالات كانت مدهشة وجديدة، ليس فقط على ذلك الفنان، بل في شكل عام على كل أبناء تلك المرحلة، لا سيما منهم الذين وقعوا تحت تأثير أفكار إرازموس وجيل المعتدلة والإنسانية، راح فن ماتسيس يتطور. وتجلى ذلك، في صورة خاصة، في «البورتريهات» التي راح يحققها ومن بينها «بورتريه» شهير للمفكر إرازموس حققها بناء على طلب السير توماس مور الذي سيصبح، لاحقاً، صديقاً له، وسوف يحتفل به بصفته «الفنان الذي أعاد خلق الفنون القديمة». وكان مور يعني بهذا أن ماتسيس بدأ يغوص في كلاسيكية إنسانية النزعة.
> والحقيقة أن ماتسيس لم يقدم على ذلك إلا بعد أن زار إيطاليا واطلع على الفنون الرائجة فيها ولمس ميدانياً، كيف أن الفنون النهضوية الإيطالية باتت تميل إلى أن تجعل من الإنسان موضوعاً ومحوراً لها، حتى وإن أبقت على البعد الميتافيزيقي لموضوعاتها وأجوائها.
> وفي هذا الإطار، تعتبر لوحة «المرابي وزوجته» واحدة من أشهر لوحات كونتين ماتسيس، بل لعلها الأقوى في مجال تعبيرها عن بداية نمو النزعة الرأسمالية في هولندا، والدور الجديد الذي بدأ يُعزى إلى المال في عملية التراكم الرأسمالي. صحيح أن كثراً يرون أن في اللوحة رنة سخرية لا ريب فيها. وهؤلاء يقولون أن ماتسيس رسم هذه اللوحة بعد دراسته العميقة لفن الكاريكاتور كما أبدعه ليوناردو دافنشي، غير أن الصحيح أيضاً هو أن المتلقين الذين قُيّض لهم أن يشاهدوا اللوحة في ذلك الحين – لكي لا نتحدث عن متفرجيها الأكثر تعوّداً على هذا النوع من الفن في الحقب التالية – لم يتعاملوا مع اللوحة على هذا النحو، بل اعتبروها محاولة للتعبير عن واقع يومي، وعن نمو طبقة جديدة، بدأت تجعل من لعبة التراكم الرأسمالي قضية عائلية (وما نظرة الاهتمام المفرط التي تبديها زوجة المرابي هنا سوى دليل حاسم على هذا، بل لعل هذه النظرة هي العنصر الأكثر أهمية في اللوحة!). مهما يكن من أمر، وبعيداً من محاكمة نيّات الرسام بالنسبة إلى هذه اللوحة، يبق لهذه الأخيرة بعدها الفني الخالص، حيث إنها، إذ رسمت في عام 1514 جمعت الكثير من الأساليب التي كان بعض كبار الرواد الهولنديين اختاروها لفنّهم. فهناك خلفية اللوحة التي تضم أشياء عادية من الحياة اليومية، لكن كلاً منها يرمز إلى بعد من أبعاد الحياة الدنيوية. وهناك، في هذه اللوحة التي تجمع بورتريهين، إلى ما يشبه الطبيعة الميتة، النقود والكتاب وحركة الأيدي المعبرة، مكملة لنظرات المرابي وزوجته. وهناك خصوصاً المرآة – التي تذكر بمرآة لوحة شهيرة لفان آيك، هي «زواج آل آرنولفي» التي رسم الفنان نفسه داخلها كتوقيع على اللوحة – ففي هذه المرآة، يبدو أن الرسام رسم نفسه أيضاً تعبيراً عن حضوره الملموس في المشهد. ولكن قبل هذا وذاك، هناك في تركيب اللوحة «الفيزيولوجي» ما يكشف عن براعة ماتسيس في التعاطي مع لعبة ترسيخ الأجساد المعقدة في لوحة من المؤكد أن الأجساد تلعب فيها الدور الرئيسي، خصوصاً أن حركة الأجساد هنا هي التي تعطي اللوحة دلالاتها، إذ تكشف عن تعمّق الرسام في دراسة سيماء شخصياته، وارتباط حركة كل شخصية بنظرتها، ومن ثم بالموقف الذي تعبر عنه. من هنا، اعتبرت هذه اللوحة، من الدارسين، تمهيداً لولادة أسلوب «فن النوع» – أي الفن الذي يعبر عن بعد حياتي معين، مرتبط بطبقة معينة، كاشفاً في طريقه، عن أخلاقية إنسانية معينة – في الفن الهولندي، وهو أسلوب كان من ضمن خصائصه الأساسية أن يتسم جوّه بموضوعية تصل إلى حد البرود، أما من الناحية الشكلية فإنه ينتمي إلى واقعية قد نسميها اليوم فوتوغرافية، هي التي كانت التجديد الأكبر في الفن الهولندي الذي راح يغوص في النزعة الإنسانية وتدخل لوحاته بيوت الأثرياء، بل حتى الطبقات الوسطى بعدما كان فناً للقصور وقبل ذلك، بخاصة، فناً للكنائس.
> ولد كونتين ماتسيس في لوفان عام 1464 (أو 1465)، ودرس أولاً لدى والده الحداد حيناً، والجوهرجي حيناً آخر. قبل أن ينتقل إلى آنفير، حيث سرعان ما صارت له مكانة كبيرة في عالم الرسم مكّنته من أن يصبح لاحقاً رئيساً لرابطة الرسامين في المدينة. وهو تأثر باكراً، وفق ما تقول سيرة حياته، بالأفكار ذات النزعة الإنسانية، وتعمّق هذا لديه من خلال احتكاكه بالأوساط التقدمية، ثم من خلال رحلة قام بها إلى إيطاليا كما أسلفنا. وظل بيته حتى وفاته عام 1530 وهو في قمة مجده، مزاراً للفنانين والكتاب، ومن بينهم دورر وهولباين اللذان تأثرا بفنه كثيراً ولم ينكرا ذلك أبداً.
جريدة الحياة