من طرفة بن العبد إلى أبي القاسم الشابي مرورا بفنسنت فان غوخ مسافة يمكن أن يختصرها شاعر من نوع قاسم حداد بجملة عرضية واحدة. “اليأس. لمَ لا؟ إنه حريتنا الوحيدة”.
صانع ورشة الأمل ومعالج المسافة يمكنه أن يعترف بأن القصيدة التي هي جنته الأخيرة لا تكفي. هناك ما يمكن أن يفعله الشاعر وهو كائن هش على مستوى الفعل المباشر لكي يرفع يده احتجاجا ويهب الآخرين فرصة العبور إلى الضفة الأخرى، هناك حيث يقف.
الجغرافي الشاعر
الشاب نفسه. كان ولا يزال وسيظل واقفا في مواجهة سوء الفهم التاريخي. تلفت بين شابين لا عمر لهما هما طرفة بن العبد الذي زاره في حلم بعيد حاملا رسالة موته وفنسنت الذي مشى حاملا أذنه المقطوعة إلى مناجم الفحم.
لقد قُدر لحداد أن يختطف الإثنين من كوكبيهما ليستضيفهما في لحظة إلهام على سطح كوكبه البحرين.
جزيرة صغيرة غير أنها مترامية الأطراف حين يتعلق الأمر بدلمون. تلك جغرافيا التبست عليها الجهات فلبست ثياب القصيدة. وهو ما فعله رفيق الغزالة يوم الأحد حين وظف الشاعر في خدمة الجغرافي الذي ضل طريقه بين المدن فرسم خرائط للروح.
صانع مكائد. ليست جهة الشعر وهو موقع إلكتروني أشرف عليه لسنوات وخرج منه خاسرا لأنه لا يجيد التسول إلا واحدة من مكائده.
حين كنت في العراق ضج الوسط الأدبي بولادة شاعرين قدما من مكان غير متوقع. كان قاسم حداد أحدهما وكان كتابه “خروج رأس الحسين من المدن الخائنة” عام 1972 وهو كتابه الشعري الثالث شهادة ذلك الميلاد.
ولأن العراق بلد مشاغب فقد كان ينتظر ولادة شاعر عربي ينهي سلطة بيروت بيوسف الخال ومجلته “شعر”. غير أن حداد الذي ظهر مستقلا وبدأ حياته الشعرية سياسيا متمردا لم يكن ليعبأ بذلك النوع من الصراع الكيدي الذي ينطوي على الكثير من تقلبات الأنواء الجوية.
ولأنه صنع قبره على هيأة كتاب شعري فقد كان واضحا بالنسبة له أن كوكبه الحزين سيظل يدور خارج القوانين الأرضية. لذلك اختار أن يكون وحيدا. فمشى مخفورا بالوعول إلى عزلة الملكات. وهو ما فعله من قبل طرفة وفنسنت ومن بعدهما أبو القاسم الشابي الذي حمله وصيته عام 2017 حين منحه جائزته.
الأكثر يأسا بين الشعراء العرب المعاصرين هو قاسم حداد. وهو في الوقت نفسه الأشد التصاقا بالأمل. ليس هناك من تناقض. ذلك لأن الأمر يتعلق بالشعر. ما من شيء يقوى على صنع انسجامه الكوني من خلال النقائض مثل الشعر.
كل الفنون شعر
ولد قاسم حداد في مدينة المحرق عام 1948. عمل في المكتبة العامة بين عامي 1968 و1975. بعدها انتقل للعمل في إدارة الثقافة والفنون بوزارة الإعلام بين عامي 1980 و1997 وهو العام الذي حصل في نهايته على إجازة للتفرغ الأدبي. عام 1969 ساهم في تأسيس أسرة الادباء والكتاب في البحرين التي تبوأ منصب رئيس تحرير مجلتها “كلمات” والتي صدرت عام 1987. “قلب الحب” كان عنوان كتابه الشعري الأول الذي أصدره في بيروت عام 1970. بعده أصدر أكثر من ثلاثين كتابا شعريا، حاول من خلالها أن ينفتح على الفنون التي شغف بها، الفوتوغراف والرسم بشكل خاص.
عام 2004 أقام الرسامان عبدالجبار الغضبان وعباس يوسف معرضا مشتركا بعنوان “أيقظتني الساحرة” استلهما فيه قصائد لقاسم حداد. تلك تجربة ضمها كتاب بالعنوان نفسه صدر ببيروت.
كما أصدر الشاعر كتاب “المستحيل الأزرق” بالاشتراك مع المصور الفوتوغرافي السعودي صالح العزاز.
في كتابه “مجنون ليلى” الذي صدر عام 1996 كانت هناك لوحات للعراقي ضياء العزاوي.
عام 2012 أقام قاسم حداد في برلين بمنحة من أكاديمية العزلة. هناك كتب كتابه “أيها الفحم يا سيدي. دفاتر فنسنت فان غوخ” وهو كتاب يتجاوز الشكل التقليدي للشعر. إنه كتاب سيرة ورحلة روحية وحوار مع الذات ومع آخر، ربما يمكن اعتباره قرينا قد اخترق في لحظة ألم حياة الرسام الهولندي فنسنت فان غوخ الذي كتب سيرته من خلال رسائله الجريحة التي تُرجمت إلى العربية قبل عقود.
فلسفة قاسم حداد الشعرية تقوم على حقيقة أن كل الفنون تنطلق من الشعر. لذلك فإنه مشى مطمئنا إلى غايته مزودا بأدوات، يعرف أنها لن تخونه ولم يكن مطلوبا منه أن يتقن لغة الرسم ليعرف أن الشعر يكمن في جذور تلك اللغة. في شعره هناك الكثير من الميل إلى صناعة الصور.
كتب حداد مقدمات لمعارض رسامين أحب رسومهم، وكان في كل ما يكتب إنما يسعى إلى تأكيد فلسفته القائمة على الثقة بالجوهر الشعري الذي تصدر عنه اللغة الفنية.
بين “طرفة بن الوردة” كتابه الذي صدر عام 2011 و”أيها الفحم يا سيدي” الذي صدر عام 2015 يبدو قاسم حداد وقد أمسك بطرفي شخصيته التي لا يرضيها سوى أن تتوزع بين جهتين. الشعر والرسم. التراث والمعاصرة. المحلية والعالمية. الشعرية المباشرة ونقيضها الذي يقيم في الحياة.
لمَ لا؟ قاسم حداد كائن حكائي من نوع مشوق. كائن قريب من خيال الأرض بطريقة تجعله مستعدا للتحليق في أي لحظة.
حصته في الولع
مثل وردة تقلد عطرا كان قاسم حداد دائما. حرص على أن يكون الشيئين معا. الوردة وعطرها. ما لا يُمسك منه، بسبب تجريديته يجد طريقه سالكة إلى حياة، هي جزء من إرثه العائلي. فهو لا يحتاج أن يمد يده بعيدا عن طاولة الكتابة ليعثر على حكايات البحارة والغواصين والصيادين التي لا تزال روائحها تملأ صدره. بمكر يبدو كما لو أنه ابن المكان، غير أنه في حقيقة ما يفعل لا ينوي الإقامة في مكان بعينه. التيه هو المكان الذي يقترحه وقد استدرج منذ الصغر هدير الأمواج إلى حنجرته. حين ينصت المرء إلى حداد يشعر أن صوته ينبعث من رمل مبتل غادرته أمواج البحر لتوها.
“قل هو الحب” جملته التي تسبق القيامة.
فبرغم كل القسوة التي واجهها بقلب مفعم بالتسامح كان حداد يرعى بتفاؤل حصته في الولع. وهي حصة لم يفرط بها في أقسى اللحظات. هي زاده وزوادته وقوت كلماته.
عرف قاسم حداد كيف يحفظ للشعر كرامته في الأوقات العصيبة. وإذا ما كان قد انهمك في مرحلة ما من عمره في العمل السياسي فإنه كان دائما حريصا على أن يضع الشعر في مكان آخر. ذلك المكان الذي لا يُعرض الشعر فيه على العامة باعتباره بضاعة مشاعة. ميله إلى العدالة الاجتماعية لم ينحرف به إلى الموقع الذي لا ينصف فيه الشعر نفسه. كانت قصائده رعايا عالم شخصي، لا يدخله إلا مَن يقوى على امتلاك حواس طائر سعيد.
ولأنه يعرف أكثر من آخرين ما الذي يعنيه أن يكون المرء بحرينيا فقد كتب رسالته الشهيرة عام 2011 محذرا من الانزلاق إلى الفوضى بذريعة الثورة. “سياسيون يرهبونك باسم الشعب ودينيون يرهبونك باسم الله” مقولته المنصفة التي لم تصف الواقع فحسب بل وأيضا واجهت التاريخ. لم يشأ أن يكون رجل التوافقات أو التسويات بل قال الكلمة التي حفظت للشاعر موقعه باعتباره مسؤولا عن تصريف شؤون رعايا عالمه الشاسع.
في الشعر كما في الحياة عرف قاسم حداد كيف يحارب الشر بقوة الجمال.
قصائد
في ذلك المساء
في ذلك المساء
الذي يلهم القاتل ويحزم الأطفال بالحلم الساحر
في ذلك المساء الزاخر باندفاعات أشباح شاردة
تدس بين الطوائف
يحلو للقتلى محو بقايا النصل
ومسح الكآبة عن سجادة الدار
والأسئلة
مَن قال أنا قُتلنا مَن رأى الدم
ها نحن فخورون بإرثنا
أصحاء مثل جليد الجبال
ما من نافذة إلا وتطل على أمل
كان لماذا في ذلك المساء
يجوز لهم التذكر وليس لنا أن ننسى
أول الاحتمالات
مفتونة الأحلام
لا جنية ولا تعشق الماء
تأتي من حيث لا نتوقع لها
ولها نخل وخيول وزعفران
مربوطة بالتذكر الصاعق
هل أنت واحدة أم كثير؟
ولا تأبه كأن الأسئلة تستعصي
والشعر أجنحة وأفق وحنين لها
ولها الزينة وأسرارها
والمرايا موصودة للقوانين والقيد
ولا تأبه كأن لا حدود تستعصي
تقذف حبل أحلامها
وتظل مربوطة في عروة الريح.
وردة النهرين
خبأت وردتك المقدسة الندى في ملتقي النهرين
فارتاحي قليلا
ربما نجلو زوارقنا ونوقظ شهوة القرصان
هيأت لنا رمانة في جنة الأخطاء
موهت الخارطة واكتنزت شفرة الغابات
فارتاحي قليلا
كي نؤنب بعضنا بعضا،
كي نؤنب بعضنا ونضيع في ليلين
من لبن وعاج
ربما نهران يلتقيان في تاج،
ووردتك الندية منتهانا
والقوارب جمة،
ولديك وقت للتكاسل عن ربابنة وكشافين
يعتقدون بالطرق الوحيدة
كلما نجتاز نهرا جاء نهر
وردة في المنهى لنضيع في الأشنات
فارتاحي قليلا
سوف نقتل بعضنا ونغض طرفا عن ضحايانا
لنفقد كنزك المكنون
نامي في خبيئتك المقدسة الندى
نامي قليلا
صحيفة العرب