قذفت الأقدار وسوء الأحوال بشاعر النيل حافظ إبراهيم إلى السودان، ولكنه كان رجلاً حريصاً على علاقاته بأصحابه، متشبثاً بمجالسهم على شاطئ النيل الذي هام به حباً. ولهذا شعر بحرارة قاسية وهو بعيد عن مجالس القاهرة ومقاهيها، فتدفقت من حافظ الكثير من أشعار الحنين. وقد كان منها الأبيات التالية التي بعث بها إلى إخوانه يذكرهم بأيامه معهم.
كتبت هذه السطور فإذا بها تثير في نفسي هذه الخواطر. غالباً ما ننسى أن نترحم على أرواح الموتى من الشعراء كما فعلت تواً. لمَ ذلك؟ أهو لاعتقادنا بأنهم خالدون بيننا يتبعهم الغاوون، أو أن لكل شاعر شيطانه، أو لكثرة ما يرد على ألسنتهم من المحرمات؟
تذكرت كيف أنني قلّما أقول عن صديقي الراحل بلند الحيدري، المرحوم بلند، أو بلند يرحمه الله. لم أفعل ذلك حتى أمام زوجته. تأملت في ذلك، ولكنني خرجت بتفسير آخر. الظاهر أننا لا شعورياً نتصور أن الشاعر لم يمت. وأنه ما زال حياً بيننا. فها هي كلماته وأشعاره وأفكاره حية بيننا ونرددها دوماً. كيف يمكن أن يكون قد مات؟ وربما لهذا السبب أيضاً أننا نتكلم عنهم غالباً بصيغة الفعل المضارع. نقول يقول امرؤ القيس، وامرؤ القيس قد مات قبل نحو ألف سنة!
وهكذا يقول حافظ لأصحابه:
من واجد منفر المنام
طريد دهر جائر الأحكام
مشتت الشمل على الدوام
ملازم للهم والسقام
إليكم يا نزهة الأنام
وفتية الإيناس والمدام
من أقسموا بألزم الأقسام
بأن يقضوا دولة الظلام
ما بين بنت الحانِ والأنغام
ومطرب من خيرة الأنام
أرق من شعر أبي تمام
ومجلس في غفلة الأيام
تحية كالورد في الكمام
أزهى من الصحة في الأجسام
يسوقها شوق إليكم نامي
تقصر عنه همة الأقلام
يا ليت شعري بعد هذا العام
إليكم ترمي بي المرامي
أم ينتميني رائد الحمام
فأنطوي في هذه الآكام
وتولم الضبع على عظامي
فإن أتى يومي وأودى لامي
وبات زاد الدود والرغام
بالله أدعوكم وبالإسلام
أن تذكروا ناظم ذا الكلام
إذا جلستم مجلساً للجام
وكان ساقيكم من الآرامي
في ليلة والبدر في تمام!
جريدة الشرق الأوسط