يفتتح الرئيس الفرنسي ماكرون ندوة عن الرئيس الأسبق بومبيدو. ما الذي فكّرهم به؟ جاء في الأخبار أن باحثين سيعكفون على تدارس تركته بمناسبة مرور نصف قرن على دخوله «الإليزيه». إنه الرئيس الذي أودى به المرض قبل أن يكمل ولايته. لكن «فرنسا في زمنه كانت سعيدة. تعانق التحديث بثقة. لم تعرف البطالة وتمتع مواطنوها بقدرة شرائية عالية». هذا ما سجّله ماكرون في مقدمة كتاب جديد صدر عن بومبيدو.
لا يتذكر الفرنسيون رؤساءهم السابقين إلا لماماً. خرج هولاند من الحكم ودخل جب النسيان. كأنه لا جاء ولا راح. وترك ساركوزي الرئاسة وأعلن اعتزاله السياسة ولم يصدقه أحد. أما شيراك فقد أخذه المرض بعيداً حتى ما عاد الناس يعرفون هل هو حي أم بَين بَين. والأمر نفسه ينطبق على جيسكار. لكن من حق الفرنسيين أن يفاخروا بأن لديهم أربعة رؤساء سابقين غادروا القصر مُعززين غير مخلوعين، يدبّون على سطح الأرض ولم تنقلهم رصاصة إلى باطنها.
وحده شبح ميتران، الاشتراكي الثعلبي العنيد، يحضر في المشهد العام ويأبى الانصراف. يندر أن تفتح صحيفة من دون أن تقع على ذكر له، ولو في الكلمات المتقاطعة. صدرت عنه مئات الكتب وما زالت تصدر. مع أنه حرص في حياته على استباق كل ما يمكن أن يقال عنه بعد رحيله. فضح نفسه بنفسه وكشف أسراره السياسية والعاطفية. من قضية عمله مع حكومة «فيشي» المتعاونة مع الاحتلال الألماني وحتى حكاية ابنته السرية. كانت له أسرة في العلن وأسرة في الظل. بالإضافة إلى عائلة سياسية يتنافس أفرادها، كالأطفال، للفوز برضاه. يبدو ميتران مثل شهريار أوروبي وحكاياته مثل ألف ليلة فرنسية، يعود إليها الرواة جيلاً بعد جيل.
نشرت الصحف تقارير حول قلق علماء الطبيعة من انقراض عصفور «الأورتولان». طائر صغير من فصيلة العنبريات يسميه العرب درسة الشعير. ما علاقة ميتران بالشعير ودرسته؟ يكفي ذكر هذا الطائر حتى يستعيد الفرنسيون حكاية رئيسهم السابق مع وجبته المفضلة. كان الرئيس الاشتراكي يعشق «الأورتولان»، طعام الأرستقراطيين. طبق لذيذ لكنه منفر في تقاليد طهيه وطريقة التهامه. يصطادونه ويحبسونه في صندوق مع كميات من الحبوب. يغطون الصندوق لعدة أيام فيتوهم الطائر أن الدنيا ليل. يروح يتناول الحبوب من دون توقف في انتظار نهار لا يأتي. وعندما يكتنز جسمه ويتضاعف حجمه، ينقعونه في مشروب فاخر وهو حيّ. هل للعصافير المسالمة رئات تشهق وتزفر مثل البشر؟ ينتظر الطباخون أن يلفظ الطائر أنفاسه، قبل نتفه وتحميره.
حين أبلغ الأطباء ميتران أن نهايته باتت وشيكة، قرر أن يشبع من الأطايب التي حرمه المرض الطويل منها. كانت ليلة رأس السنة وشيكة. ودعا الرئيس أصدقاءه المقربين على أكلة «أورتولان» في منزله الريفي. وجاء في شهادة موثقة لأحد الحضور أن ميتران أخذ منديلاً كبيراً وضعه على رأسه وأسدله على وجهه وبدأ يلتهم الطير بيديه ويمصمص عظامه، من وراء الحجاب. تقاليد فرنسية متوارثة من أيام الملوك. شياكة تستنكف منظر الدهن الذي يسيل من الأفواه ويلوث الأصابع.
ختم الشاهد الحكاية بالقول إن ميتران الذي كان يعاني من سكرات الموت، لم يكتفِ بطير سمين واحد بل التهم اثنين! ثم ودّع رفاقه وسافر لاستقبال سنة 1995 في أسوان بمصر، مع عشيقته وابنته منها. قال إنه يتمنى أن تنتهي حياته في مكان يشعر المرء فيه بالعظمة. وبعد 8 أيام من ذلك العشاء الأخير عاد ليستسلم للموت دون أن يكون في نفسه شيء من «الأورتولان».
جريدة الشرق الاوسط