إن أوحى عنوان المقال بأن الحديث سيأتي على معلومات فائضة عن الحاجة، وعلى كتب فائضة عن حاجتنا أيضاً، فعليَّ أن أبدأ بتبديد هذا الانطباع، والقول إن ما سيأتي عليه القول، هو أن البشرية، بالقياس لأزمنة سابقة، ولم تكن بعيدة بالمناسبة، خاصة بما يتصل بالمعلومات تحديداً، كانت تشكو فيها من نقص، وشحة في المعلومات، كما كانت عانت، سابقاً، شحة في الكتب أيضاً.
ليست «الجوجلة»، نسبة إلى محرك البحث العملاق «جوجل»، هي وحدها من بات يُيّسر هذا التدفق الهائل من المعلومات، فما أكثر المواقع التي لا يغطيها «جوجل»، موجودة على الشبكة التي باتت تعرف بالعنقودية، ومع ذلك فإنها حافلة بالمعلومات المفيدة، والضرورية، في مجالات مختلفة من مجالات المعرفة والحياة. وربما الكثير من هذه المعلومات، قبل ذلك، كان مدفوناً في بطون الكتب، يتعين بذل الكثير من جهد للغوص فيها للوصول إلى ما يلزم من معلومات، لكن «الانترنت» وفرّ سرعة غير مسبوقة، لتحقيق ذلك.
يجب ألا يأخذ منا الحماس مأخذه، فنزعم أن كل المعلومات والبيانات باتت متاحة بين أيادينا، ما علينا سوى بذل بعض الجهد، وإنفاق بعض الوقت لبلوغها، فما زالت هناك سدود سميكة، عصية على الاختراق، تحجب الكثير من المعلومات، التي توجد مصالح نافذة لا يسمح أصحابها المتنفذون من تعميمها، وإتاحتها للرأي العام، وبالتالي فإن قوة تدفق المعلومات، تتفاوت بين مجتمع وآخر، تبعاً لطبيعة نظامه، فيضعف التدفق كلما ازداد النظام شمولية، ويقوى كلما جنح هذا النظام نحو مقادير أوسع من الحرية، لكن حتى الشمولية، على شدتها، فقدت الكثير من سلطتها على احتكار المعلومة، أو حجبها، لكون وسائل الوصول إليها تعددت وتنوّعت.
علينا أيضاً تخّيل زمن آخر كان القراء يعانون شحة في الكتب، هي الأخرى، وهذا الزمن بدوره لم يكن بعيداً، وإن كان أبعد من زمن شحة المعلومة، ويكفي أن ننقل هنا ما ذكره الكاتب الراحل ثروت أباظة، وهو الذي وُلد ونشأ في عائلة متعلمة، متفتحة، وذات علاقة وثيقة بالأدب، ومع ذلك فإنه يصف جيله ب «الجيل المظلوم» الذي حين نشأ لم يجد كثيراً ما يقرأه، رغم تلهفه للقراءة وامتلاك المعرفة، لذلك فإنه شخصياً أعاد قراءة بعض الكتب عدة مرات، ليس لأنه تعلّق بما فيها وبمؤلفيها فحسب، وإنما لأنه لم يكن يجد كتباً جديدة جديرة بأن تقرأ.
ومن ذلك أنه كان ينصرف عن المذاكرة، على أبواب الامتحانات، لإعادة قراءة «حياة محمد» لمحمد حسين هيكل، للمرة الثانية، والثالثة، وبالمثل أعاد قراءة كتب طه حسين مرات عدة، وهو فتى صغير، لكنه، للحق، يذكر أنه استمر على إعادة قراءتها لما كبر، لا لنقصٍ في الكتب الجديدة، وإنما من باب الولع والإعجاب بما فيها من أفكار.
جريدة الخليج