ما الذى بقى من موروثات أرض أطلقوا عليها ذات يوم اسم «تا نحسيو» («تا »الأرض، و«نحسيو السود» و«تاستي» (ارض الاقواس) وحمله أهالينا النوبيون فى القلوب والعقول وغرسوه فى ارض جديدة ؟!..لماذا يؤرقهم حلم العودة رغم أن أجيالا جديدة ولدت بعيدا عن قرى النوبة؟! علامات استفهام البحث عن إجاباتها فى مجرد أوراق كتبها زائرون ورحالة أو على محركات البحث على الشبكة الالكترونية، عادة لا يؤدى إلا لحالة ارتباك أو تشويش للحقائق لتظل النوبة أشبه بطلسم يستعصى على الحل..
فى كتابه «ملامح من ذاكرة النوبة «يروى الأديب النوبي» عبدالمجيد حسن خليل «الحكاية ويفك شفرات الطلسم من خلال تجربة حية لرجل لم ينفصل عن جذوره وحمل بين الضلوع أساطير وحكايات وتقاليد موروثا تاريخيا وعايش كل التحولات التى طرأت عليها.
فالكاتب يهدينا فى فصول كتاب يتميز بسلاسة العبارة وسهولتها رؤية مستفيضة مبسطة لتاريخ النوبة وتركيبتها السكانية والدينية ودور الطبيعة والنيل والموروث الشعبى فى حياة النوبيين وحكايات التهجير وانعكاساتها فى أعمال أدباء النوبة، الذى خصص لهم فصلا كاملا من الكتاب لتقديم سيرة البعض منهم، خاصة ممن لم تسلط عليهم الأضواء رغم مكانتهم الأدبية وأثرهم فى تشكيل وجدان وذهنية أهالينا النوبيين..
وفى تقديرى أن التفاعلات رصدها الكاتب عبدالمجيد حسن تفسر حالة الخصوصية النوبية والحنين للأرض، يمكن ردها أو إحالتها لمفهوم» الموضع والموقع «الذى طرحه المفكر الكبير جمال حمدان فى سفره المهم «شخصية مصر» عندما تناول مفهومى العزلة والتفاعل مع العالم. فأبناء النوبة نموذج لدوائر انتماء متداخلة لم تحفظ فقط تراثا ثقافيا مميزا، بل أيضا طورته من داخله وحمت خصوصيته المتمثلة فى لهجات وعادات وتقاليد وزى وفنون لا تخطئها العين ولا الأذن..
وعلى الرغم من اختلاف الباحثين حول أصل اللغة النوبية فإنه يمكن تقسيم اللغة النوبية إلى اللغة الكنزية والفديجة. وبالرغم من أن هذه اللغة دخلت عليها مفردات من اللغة القبطية ولغات أخرى نتيجة اختلاط المجتمع النوبى بجماعات متباينة، فإنها لا تزال من اللغات الشفهية. فى هذا السياق يطرح الكاتب إشكالية خطر تآكل مفردات لغة، وإن لم تخصم من رصيد انتماء أهل النوبة للوطن الأم، تحمى ثقافة وفنون لها خصوصيتها من الاندثار، وينعى عدم اهتمام الدولة ومؤسساتها الثقافية بهذا التراث اللهم إلا فى احتفالات موسمية تتعامل معه بشكل متحفى سطحى لا يبوح بسر النوبة ولا يبرز ملامحها التى رسمها محمد خليل قاسم في» الشمندورة» أو يحيى مختار فى «جبال الكحل» أو حجاج أدول فى «ليالى المسك العتيقة» وغيرهم أو فى إبداعات شعراء النوبة.
ويفرد الكاتب جزءا من كتابه يرصد فيه تناول أدباء النوبة عبر صيغ مشبعة بعواطف جياشة لمشاعر الاغتراب والشعور بالأنا فى مواجهة الآخر، فيعرض لأعمال د. خليل كلفت ومحمد خليل قاسم وحسن نور وإدريس على وحجاج أدول ويحيى مختار وإبراهيم شعراوى ومحمد شندى وغيرهم ممن وشت أعمالهم بوجع التغريبة..
ويكشف الكاتب فى تتبعه لسيرة أدباء وشعراء النوبة أن الغالبية العظمى منهم اعتنقوا الفكر اليسارى معللا ذلك بأنه ربما كان رد فعل طبيعى لمعاناتهم وما تعرضوا له من ضيق العيش..وهنا يستوقفنى موقف الكاتب الذى لم يمنعه إعجابه ولا اعترافه بموهبة ادول وإدريس علي، من نقد وتحليل مواقفهما السياسية وآراء تغلبت فيها «الشيفونية» على المنطق ولونت الحدث.
وأخيرا فبقدر ما تكشف سطور الكاتب عبدالمجيد حسن كثيراً من أوجاع تغريبه لم يشعر بها إلا من كابدها، تدق جرس إنذار للحفاظ على تراث كامل خصوصيته وأهميته فى تاريخ أمة.