ظَلَّ الالتباس بين من يكون موظفاً حكومياً وكاتباً صحافياً، في آن، مثار جدل حقوقي وأخلاقي طويل ومستمر حتى الآن.
هل يمكن الفصل بين ما يقوله الكاتب في مقالاته من أفكار ومواقف، وبين ما يمثّله في وظيفته الرسمية، خصوصاً إذا كان ذا منصب قيادي مرموق في بلاده أو ديبلوماسياً في الخارج، بحيث يخطر في بال القرّاء تلقائياً أن ما يقوله في مقالاته يمثّل موقف بلاده.
الكتّاب، المحترفون خصوصاً (محترفون معرفياً وليس مادياً)، ينزعجون من هذا الالتباس ويودّون التخلص من الربط بين شخصيتي الكاتب والموظف. وقد رأينا قصصاً عدة من التأزم لهذا السبب، خصوصاً إذا كان الكاتب ديبلوماسياً وشاعراً أيضاً كالراحلين عمر أبو ريشة ونزار قباني وغازي القصيبي أو ديبلوماسياً مثقفاً كالأمير تركي الفيصل وطارق متري وعبدالله بشارة.
للأسف، لا توجد حلول عدة مطروحة في هذا النقاش. ليس سوى حل واحد فقط يطرحه، ببرود بالغ، الذين لم يكتووا بهذا المأزق، وهو: ترك الوظيفة أو التوقف عن الكتابة حتى بلوغ سن التقاعد. أي أن تقوم أيها المثقف بقمع (الكاتب) الذي بداخلك حتى تبلغ الستين من عمرك! يبدأ الشغف بالكتابة عند الإنسان عادةً في سن العشرينات، ثم يزداد شغفه ومهارته الكتابية مع السنين. لكنه، غالباً، كلما ترقّى في سلّم الكتابة ترقّى في سلّم الوظيفة أيضاً. ثم في لحظةٍ ما من هذا الترقّي المتزامن يصطدم بالاختيار بين أن يترك هوايته أو يترك وظيفته!؟
هل هذا الازدواج والتأزم خاص بالكاتب والمثقف العربي فقط؟
أبداً، بل هو جدلٌ موجود، ليس فقط في الدول المتاخمة من أفريقيا وآسيا فقط، بل وفي دول الغرب المتقدمة في مجال الحريات الصحافية. وهو أنصع وضوحاً وشبهاً في دول أميركا اللاتينية، حيث يكثر الكتّاب والشعراء مثل العالم العربي، ولنستذكر هنا (الديبلوماسي) الشاعر الكبير بابلو نيرودا، الذي مرّ بالمأزق ذاته في الاختيار بين أن يعمل ديبلوماسياً أو يكون شاعراً، فاتخذ قراره الحاسم بالعمل شاعراً!
المَخرج البديل عن الحيرة التي ستصيبك أيها الكاتب للاختيار بين الوظيفة أو الكتابة عند بلوغك الأربعين أو الخمسين، هو أن تقرر مبكراً، في العشرينات من عمرك، تأجيل الإعلان عن الكاتب الذي بداخلك لمدة أربعين سنة فقط.
أربعون سنة «يتيه» فيها المثقف داخل الموظف!
جريدة الحياة