كثيراً ما نلاحظ أن الرجال حديثي النعمة، مما كنا نسميهم تجار الحرب، وقد كثروا في هذه الأيام وتشعبوا، يسعون لكسب الجاه ونيل المكانة بالزواج من بنات النبلاء وذوي النسب والحسب. كذا كان الأمر بالحجاج بن يوسف الثقفي، الذي بدأ حياته معلماً صغيراً للصبيان في بني ثقيف. ولكنه بعلمه وأدبه وحزمه وعزمه بلغ ما بلغ في ولاية العراق. فطمع بالجاه. خطب أم كلثوم بنت عبد الله بن جعفر، وما كان لهذا أن يعطيها له لولا ضيق حالته ووسع المهر الذي عرضه عليه، ألفا ألفي بالسر وخمسمائة ألف في العلانية. لاحظوا الكيد والكياسة من رجال السياسة. ولكنه كان معلماً. وما كان حظ المعلمين بأحسن من حظهم في أيامنا هذه.
أقامت عنده ثمانية أشهر وانقطع عهد الحجاج بها عندما خرج والدها إلى دمشق فأتاه الوليد بن عبد الملك على بغلة، والبغلة غير الفرس وفيها ما فيها من الإهانة. فاستقبله ولكن الوليد بادره زاجراً «لكنك أنت لا مرحباً بك ولا أهلاً». أجابه ابن جعفر فقال: «مهلاً يا ابن أخي، فلست أهلاً لهذه المقالة منك». قال: «بلى والله وبشر منها، لأنك عمدت إلى عقيلة نساء العرب وسيدة نساء بني عبد مناف فعرضتها لعبد ثقيف هذا يتزوجها».
فعاد عليه عبد الله بن جعفر ليبرئ حاله قائلاً: «والله ما أحق الناس أن يلومني في هذا إلا أنت وأبوك، لأن من كان قبلكم من الولاة كانوا يصلون رحمي ويعرفون حقي. وإنك وأباك منعتماني رفدكما حتى ركبني الدين. أما والله لو أن عبداً حبشياً مجدعاً أعطاني بها عبد ثقيف لزوجتها منه. إنما فديت بها رقبتي».
لم ينتظر لجواب الوليد. بل وكز دابته وقصد الخليفة فوجده جالساً في مجلسه. بادره بالسؤال: «ما لك يا أبا عباس»؟ قال: «إنك سلطت عبد ثقيف وملّكته حتى أخذ بنات بني عبد مناف».
استولت الغيرة والحمية على الخليفة فكتب إلى الحجاج يقسم عليه ألا يضع كتابه من يده حتى يطلق أم كلثوم. ففعل. أعادها الحجاج إلى ذويها ولكن بعز وكرامة. وخصص لها ولوالدها ما يسد عنها الحاجة ويصون كرامتها، حتى خرجت من الدنيا وتبعها والدها بعدها بسنوات. وما كان يحل العام الجديد حتى كان الحجاج يسرع لمدهما بكسوة جديدة وما تبعها من لوازم.
قلت لا جديد تحت الشمس. هل قلت ذلك؟ لا، فهناك الكثير من الجديد تحت الشمس. فما فعله الحجاج دأبت الطبقة الصناعية الرأسمالية الناشئة على فعله في أوروبا، حيث راحوا يتزوجون بنساء الطبقة الأرستقراطية ليكسبوا لأنفسهم المكانة المحترمة، ويرفعوا شأنهم ومكانتهم في المجتمع. وعلى غرار ذلك نجد في عالمنا العربي المعاصر الفئة المهنية الناشئة من أصحاب المال والأعمال والشهادات تسعى للزواج بنساء وأبناء القبائل والعوائل والمرجعيات لتسبغ على نفسها المكانة والهيبة والاحترام.
نقلا عن جريدة الشرق الاوسط