“النظر من ثقب الإبرة” عبارة لها معنى سلبي في لغتنا العربية. وهي تعني قصر النظر حين يتعلق الأمر بإنسان لا يتمكن من حدس ما سيحدث له أو لغيره في المستقبل القريب أو البعيد، وضبابية الرؤيا، وعدم القدرة على الإحاطة بالواقع، والعجز عن امتلاك نظرة ثاقبة، وتحليل عميق له للكشف عن ملابساته وتعقيداته.
لكن يمكن أن تكون لعبارة “النظر من ثقب الإبرة”، معان أخرى. وهذا ما نعاينه في العديد من الأعمال الأدبية. ففي رواية “رجل بلا مواصفات” للنمساوي روبرت موزيل، تطلب راشال الأرستقراطية الجميلة من الزنجي سليمان الذي جلبه أحد نبلاء فيينا من إثيوبيا أن ينظر من ثقب الباب ليعرف ما يدور في القاعة الكبيرة، حيث يجتمع بعض كبار الأعيان في الإمبراطورية النمساوية قبل انهيارها.
وعندما ينفذ سليمان طلبها، يقع نظره مرة على ورقة بيضاء، ومرة على أنف معقوف، ومرة على خاتم يلمع، ومرة على بساط أخضر يمتد مثل حقل معشوشب، ومرة على يد بيضاء تستريح على شيء لا يرى. ومن خلف الأبواب المغلقة كانت الأصوات “تَهْدرُ مثل كتلة من الصخر، وأحيانا تنزلق على أرضية القاعة الكبيرة كما لو أنها تنزلق على ألواح وضعت عليها قطع من الصابون”.
عندئذ يشعر سليمان أن الحياة عندما يتمّ النظر إليها عبر الخيال، أو عبر ثقب الباب، تأخذ أبعادا عجيبة، ومحيّرة، ومثيرة للقلق، وشاغلة للفكر. ولعل موزيل أراد من خلال هذا المقطع أن يؤكد لنا أن الروائي يختلف عن المؤرخ. فإذا ما كان هذا الأخير يهتمّ بالأحداث الكبيرة وبأسبابها، وبالفاعلين فيها من رجالات الاقتصاد والسياسة، والجيش، وغير ذلك، فإن الروائي يركز على التفاصيل، ويروق له أن يرسم صورة للمهمشين، والمهملين، والبسطاء، والمجانين، ولكل أولئك الذين يصنعون “التاريخ السري” لمجتمعاتهم.
وفي كتابه “تاريخ الجنون في العصر الوسيط”، درس ميشال فوكو مختلف جوانب الحياة في المجتمعات الأوروبية في القرون الوسطى، لا من خلال رجال الكنيسة، ولا من خلال الملوك والأمراء، بل من خلال المجانين الذين كانوا يُعتبرون لعنة على مجتمعاتهم، لذا كانوا يُحشرون في القلاع المظلمة، أو يرمون في مراكب تجوب بهم الأنهار الكبيرة فلا يعودون إلى الأرض أبدا.
وفي روايته “الجحيم” الصادرة عام 1908، يرسم لنا هنري باربوس صورة لموظف في أحد بنوك باريس، يقضي جل أوقات فراغه في غرفته المظلمة، مراقبا من خلال ثقب في الحائط، حركات وسكنات أفراد عائلة بورجوازية. ومن خلال هذه الرواية، فضح هنري باربوس نفاق البورجوازية الفرنسية، وأكاذيبها، ونزواتها القذرة، وجشعها، وخواءها الروحي والثقافي.
ورفض الجاحظ وظيفة سامية في قصور بغداد، مفضلا البقاء في البصرة، مسقط رأسه ليهتم بجميع من أهملهم المؤرخون الكبار السابقون والمعاصرون له، ويكتب عن المجانين والمعتوهين والعور والعرجان والعميان والبغايا والبخلاء والحيوانات الأليفة والمتوحشة. فكانت أعماله من أفضل الأعمال الأدبية التي عكست حياة المجتمعات العربية في ظل خلافة بني العباس.
نقلا عن صحيفة العرب