هل نحب الحياة؟.. لا أعتقد، لأن من يحبها يجب أن يكره كل ما يؤذي الإنسان.. ألاَّ يَمْنَح الموتَ فرصة الانتصار عليه، وأن يأخذ كل صباح فرشاته العريضة، ويرسم في الفراغ سماء بلون أزرق، وأن يفتح قلبه عن آخره للإصغاء للأناشيد المتخفية فيه، ويطلق سراح كل العصافير التي هربت من البرد نحو جوانحه الدافئة.
هناك تصحر كبير مس أرواحنا في العمق، ودمر خلايانا الأكثر حساسية والأكثر إنسانية، لهذا كثيرا ما ينتابني سؤال لا أملك حياله الشيء الكثير: هل مازلنا نحب الحياة؟، وماذا بقي اليوم من ذاكرتنا الفنية، الموسيقية تحديدا؟.
طبعا، جيلي لم يعاصر لا سيد درويش، ولا ناظم الغزالي ولا حتى اسمهان، ولا الموسيقيين العالميين الكبار مثل هايدن، موزارت، ديبوسي، سان سونس، وفاغنر وغيرهم، ولكننا معنيون بهم جميعا ثقافيا وإنسانيا، فهم صنعوا ذاكرتنا ورووها بكل الرهافات التي منحوها لنا.. نتذوقهم بحب كبير، ونستعيد إنسانيتنا من خلالهم كلما أظلمت الدنيا في أعيننا، ونسعد بأننا ننتمي للمجتمع البشري الذي يختلف عن بقية الكائنات الأرضية، ونشعر بأن حواسنا لا تزال حية في عالم يقتل كل شيء يلمسه، داخل عدميَّة غير مسبوقة، تمحو كل ما لا يشبهها.. نسمع موسيقاهم، فنشعر بأن الدنيا لا تزال ببعض الخير، بأنفسنا فيهم وفي اختلافهم، في تاريخهم، وفي موسيقاهم.
قد يبدو هذا الاعتراف بديهيا وعاديا، لأن جيلنا تربى على الموسيقى العربية والعالمية، يستطيع اليوم أن يجمع بسهولة بين السيد درويش، ومحمد عبد الوهاب، وفيروز، والشيخ تولالي، والكاردينال العنقة، والشيخ العفريت، والشيخ ريمون، والشيخة رميتي، والشابين خالد ومامي، ونجاة عتابو، وعدوية، وبين موزارت، وبيزيت، وشارل ازنافور، وبراسنس، وجاك بريل، وبورودين، وتشايكوفسكي، وبافاروتي، وماريا كلالس، ورافي شنكار، وشجاريان، وغيرهم.. يسمعهم بحب، بدون أن يفكر في انتماءات الموسيقى للشرق أو للغرب، أو يبحث في أصولهم، فلا هوية للموسيقى إلا روحها العميقة.
هناك ذاكرة إنسانية عميقة تصنع اليوم الذوق الإنساني وتعطيه معناه، وقد لا تعترف بالفواصل الوهمية التي فرضها العصر، والضغائن والصراعات والأيديولوجيات وتأويلات الأديان الضيقة.
غيرأن ما يحدث اليوم في مجتمعاتنا العربية خطير، وخطير جدا لأنه لا يتعلق فقط بالذاكرة، ولكن أيضا بنقيضها، أي بالعدمية التي جاءت مع التطرف الديني الذي سحب من الإنسان حقه في الحياة واللون والموسيقى، حتى ميراثنا الموسيقي الشعبي تم تحريم الكثير منه، ولا شيء يفسر ذلك إلا التخلف المدقع والرغبة المظلمة في التأسيس للعدمية المطلقة وللمجتمع اللاثقافي.
قيل عن المولد النبوي الشريف حرام لأنه بدعة؟، وقيل عن احتفالات يناير الأمازيغية التي تتغني بالزراعة والفصول، عادة وثنية؟، وقيل عن أعياد الميلاد إنها محرمة لأنها خارج ميراثنا؟.. نسينا أن الأساس في الاحتفاليات هو سعادة الإنسان وفرحه.. فلماذا نقدم الظلام على النور؟ والضغينة على الحب؟ والخواء على الموسيقى؟.. فهل لا نزال نحب الحياة؟
صحيفة الرؤية