كان من نتائج الجوع المزمن وضعف الحال؛ مما سبق أن أشرت إليه مراراً، أن وقع العرب في الهيام بالطعام على نحو ما وقعوا في الغرام بالحسان؛ وربما أكثر. وكان من حصيلة ذلك في عالم الظُرف الأدبي والفكاهة، بالإضافة لكل ما أوردناه من نكات وتقليعات، مقطوعات وقصائد مؤنسة اشتهر بها الظريف والمنكّت المصري المعروف حسين شفيق.
يعود لشفيق الفضل في صياغة تعبير «الشعر الحلمنتيشي» الذي أطلقه على قصائده الفكاهية، التي خلط فيها الكلام العامي بالفصحى، على نحو ما يفعل الظرفاء دوماً ويدغدغون به مشاعر القراء. كان من أعماله تلك معارضة المعلقات السبع بقصائد سمّاها «المُشَعْلَقات» وضمنها كثيراً من الغزل بالطعام؛ ويضيق هذا المقال عن الاستشهاد بها. بيد أن من أعماله أيضاً معارضته قصيدة أبي العتاهية:
ألا ما لسيدتي ما لها؟
أدلا فأحمل إدلالها
أظن الولية زعلانة
وما كنت أقصد إزعالها
أتى رمضان فقالت هاتوا لي
زكيبة نقل فجبنا لها
ومن قمر الدين جبت ثلاث
لفائف تتعب شيّالها
وجبت صفيحة سمن وجبت
حوائج من غيرها طالها
فقل لي على إيه بنت الذين
بتشكي إلى أهلها حالها؟
ومن المعارضات الشعرية الجوعية ما فعله الشيخ عامر الأنبوطي في القرن الثامن عشر، في معارضة ألفية ابن مالك؛ حيث قال:
يقول عامر هو الأنبوطي
أحمد ربي لست بالقنوط
وأستعين بالله في ألفية
مقاصد الأكل بها محوية
فيها صنوف الأكل والمطاعم
لذة لكل جائع وهائم
فإنها نفيسة والأكل عم
مطاعمنا إلى سناها القلب أم
وفي قطعة شعرية أخرى يعارض لامية ابن الوردي فيقول فيما يقول:
اجتنب مطعوم عدس وبصل
في عشاء فهو للعقل خبل
واحتفل بالضأن إن كنت فتى
زاكي العقل ودع عنك الكسل
من كباب وضلوع قد زكت
أكلها ينفي عن القلب الوجل
إلى جانب هذه المعارضات الشعرية توجد كذلك المعارضات النثرية، وكان منها ما فعله الشيخ يوسف الشربيني عندما نشر «مداعبات»، ومن ذلك:
«الحمد لله مستحق الحمد على التحقيق، الذي وفق بين الفرج والضيق، وأمر بالحج إلى بيته العتيق، وجعل السمن البقري لعسل النحل رفيق…
أيها الناس؛ مالي أراكم عن الزبدة بعسل النحل غافلون، وللأرز المفلفل باللحم الضاني تاركون، وعن البقلاوة في الصواني معرضون، وعن الأرز السمين والدجاج المحمر لاهون. فاغتنموا، رحمكم الله، هذه الموعظة، ودعوا أكل المغلظة، كالعدس والبيسار والفول الحار…».
إلى آخر ذلك، وحديث الجوع حديث طويل…
.جريدة الشرق الاوسط