تربط الكاتبة الفرنسية من أصول إيرانية نهال تجدد صلة وثيقة بالتصوف منذ طفولتها، حيث درست التصوف في المعهد الوطني للغات والحضارات الشرقية، كما أنها مهتمة بترجمة أشعار الرومي إلى اللغة الفرنسية. وقد أسفرت هذه العلاقة عن روايتها “الرومي نار العشق”، وتناولت فيها جانبا مجهولا عن علاقة جلال الدين الرومي بشمس التبريزي. وفي كتابها الجديد “جواز سفر على الطريقة الإيرانية” ذهبت الكاتبة إلى منطقة أخرى، وإن كانت متصلة بجانب السيرة التي تطرقت إليها في كتاب الرومي.
قدمت الكاتبة نهال تجدد في روايتها الأخيرة “جواز سفر على الطريقة الإيرانية” سيرة ذاتية مصغرة لذاتها، وإن كان كل تركيزها اقتصر على تقديم صورة من صور قهر النظام الملالي الذي يحكم باسم الجمهورية الإسلامية في إيران.
الصورة التي تناولتها تجدد تختلف اختلافا جذريا عن كافة الأعمال التي هتكت غلالة القهر، متمثلة في السجون والمصادرات للأملاك وغيرها من صور أبرزها كُتاب متعددون من قبل كما كتبت كامليا انتخابي فرد، في سيرتها “كامليا”، وطاهرة علوي في “صيف ذلك العام” وغيرهما من أعمال كشفت عن المعاناة التي يعيشها الكثيرون تحت كنف الحكم الملالي، ومن ثم كان مصير الأفراد إما السجن وإما التشرد في المنافي.
قوانين الملالي
لم تقع نهال تجدد في روايتها الصادرة عن منشورات الجمل بترجمة خالد جبيلي، تحت وطأة القهر بالسجن أو الاعتقال، على نحو ما حدث مع آخرين، إلا أنها وقعت أسيرة لقوانين الملالي التي فُرضت على الجميع، فسقطت البلاد في هوة التخلف والفساد. فتسرد الذات المتألمة والمتوجعة لما آل إليه الوضع في بلادها، حتى أنها تتساءل في استنكار ويأس: أين هي إيران؟ عبر محنة شخصية عاشتها البطلة قابلتها أثناء محاولتها تجديد جواز سفرها قبل ذهابها إلى فرنسا في مؤتمر لإلقاء محاضرة عن العلاقة بين البوذية والصوفية الإيرانية.
عبر هذه المشكلة التي تبدو بسيطة للجميع، ويراها البعض أنها لا تمثل قيمة، أو حدثا جوهريا، خاصة وأن لديها جوازا فرنسيا، تتخذ تجدد من هذه الأحداث القليلة التي مرت بها وهي في مهمة استخراج الجواز؛ لتفتح عدستها على الماضي والحاضر معا في تداخل عجيب، مُعرية النظام الملالي الذي حكم إيران ووضع “إيران في قفص” على حد قولها.
نلاحظ أن عين الساردة على الماضي الذي كان باذخا مقارنة بالحاضر الذي صار أشبه بالفوضى؛ حيث ندرة “الحدائق ذات الممرات الواسعة المليئة ببرك الماء” التي كانت مُنتشرة عندما كانت طفلة. كما صادر النظام الإسلامي تلك البيوت الكبيرة التي شُيدت في أربعينات القرن الماضي، أو التي بيعت إلى متعهدي بناء قطعوا الأشجار القديمة الضخمة، ثم أقيمت نيابة عنها بنايات شاهقة من عشرين طابقا يقطنها أربعمئة شخص.
ولا تقف المقارنات عند ماضي وحاضر إيران، وإنما إيران وغيرها من الدول المجاورة لتكشف مدى السجن الذي عاشت فيه البلاد تحت مظلة الأيديولوجية الإسلامية المتشددة، فتقارن بين ما وصلت إليه دول مجاورة كدبي والبحرين من عمارة ونهضة مقارنة بما تعيش فيه إيران مِن جهل وتخلف وانحطاط.
ولا تقف عدسة الساردة/ الأنا عند مشكلتها الشخصية مع النظام الملالي الذي فرض قيودا على المرأة، أبسطها ألا تُسلم على الرجل، أو تلك التي رصدتها أثناء سعيها للحصول على صورة شخصية للجواز “رحت أدقق جميع الوثائق لدي: الصورة وفق الطريقة الإسلامية… ارتديت ثيابي على الطريقة الإسلامية المفروضة: بنطلون فضفاض، معطف طويل، غطاء رأس واسع، ووضعت لمسة خفيفة من المكياج، أحمر شفاه لا يكاد يكون مرئيا، لإرضاء ذاتي”، وإنما أيضا عبر كافة الشخصيات التي تتصل بها سواء عن طريقة صلة القرابة أو غيرها.
فهي تقدم صورة لواقع مُتناقض حيث مازالت الشخصيات أسيرة لهذا النظام وما مثله من مخاوف وكبت للكثير من الحريات وإن كان البعض يقفزُ على هذه القيود بالسفر إلى خارج إيران.
ولم يَسْلم المجتمع من تشوهات هذه الإكراهات التي فُرضت على الجميع، حتى “أصبح كل شيء بشعا لكن على نحو متجانس” فثمة تفتيش إلزامي على ملابس النساء منذ قيام الثورة عند مدخل جميع المباني الحكومية. ومداهمات شرطة الآداب/ نساء الحرس الثوري المفاجئة على مراكز التسوق والمطاعم والمحلات والحدائق العامة وأيضا على الشقق الخاصة، والضوابط الشكلية المتمثلة في ألا تكون هناك مَسحة من المكياج على وجوههن أو طلاء أظافر على أيديهن، بل كانت المفتشات يدققن في طول سراويلهن ومعاطفهن وطول أكمامهن، الغريب أنه بعد مضي ثلاثين سنة على قيام النظام الإسلامي “مازالت المفتشات يعملن”.
كما أن الثورة ألغت الملاهي الليلية وجلسات الشرب والشجارات التي كانت “تنشب من أجل شامة فوق شفة فتاة الليل”. وقد وقع المجتمع فريسة للفقر والعوز، وهو ما تعاني منهما الغالبية العظمى، سواء على مستوى السكن في أحياء فقيرة أو وقوعه تحت ظروف قاسية، علاوة على انتشار الرشى لتسهيل الأمور، والأهم أنه، ومقابل حالة الخناق التي تفرضها السلطة الإسلامية المتحدثة باسم الملالي وآيات الله، فإن ثمة خروقات حتى من أبناء آيات الله بامتلاكهم السيارات الأوروبية الحديثة الطراز، وتحرر بنات الكثير من المعممين من الحجاب، والاستماع إلى الموسيقى الغربية الممنوعة.
الذات والوطن
ينتمي النص إلى السيرة الذاتية، وإن كان لا يقدم سيرة ذاتية كاملة، بقدر ما يُقدم ملامح مجتزأة لهذه السيرة، فاسم المؤلفة يرد صراحة داخل النص أكثر من مرة، وكذلك عملها ككاتبة وأسماء عائلتها الحقيقية. ومع الحضور الذاتي إلا أن حضور الوطن هو البارز، فتتقاطع الذات الساردة مع الوطن الموجوع أيضا.
ويتجاور مع السرد الذاتي سرد معرفي، تقدم الذات الساردة عبره تاريخا عن الإمبراطورية الفارسية وعاصمتها وإنجازاتها، كنوع من التحسر على الواقع الأليم.
الحكاية قائمة على تمفصل مزدوج؛ انتماء إلى التاريخ من حيث الإحالات الزمانية، وانتماء إلى التخييل من حيث الصيغ المعتمدة في التشخيص السردي، ولكن ثمة تردد لعناصر غير تاريخية تلبست لبوس التاريخ، وإن كانت مكتوبة بصيغ بعيدة عن التاريخ، وكأنها تنتمي إلى تاريخ متخيل على نحو حديثها عن العقيدة الشيعية وسبب خلافها مع السنة دون أن تنحاز لأي من الطائفتيْن.
وترصد تجدد عادات الإيرانيين واحتفالاتهم بأول المحرم الذي يمثل طقسا مهما في المعتقد الشيعي، فيحتفل الإيرانيون بهذه الذكرى الحزينة، بإعلان الحداد، وما يتخللها مِن مراسم جلد الذات وتراتيل أناشيد تعزية. وثمة تداخلات مع نصوص أخرى كالشاهنامة وصراع الأبطال والافتخار بشجاعة “غورادا فاريد” بطلة إيران الأسطورية.
والكاتبة بهذا التنوع السردي والتكثيف كأنها تستحضر مقولة إمبرتو إيكو إن “النص آلة كسولة توكل إلى القارئ جزءا من عملها” فيبدو النص حكاية مبتسرة – تستحضر قارئها – ترصد واقعا قاهرا تأخذ من الزمن الحاضر وإن كانت تتقاطع معها أزمنة أكثر قدما تعكس تاريخ هذا القمع.
وفي جميعها تبرز فطرة الإنسان على رفض القمع والسجن فتقدم لنا طرائق هذه المقاومة والخروج من السجن بطرائق شتى تكشف أن مهما أوغلت الأنظمة بكافة أجهزتها الأيديولوجية في القمع إلا أن الإنسان لا يعدم الحيلة في الالتفاف عليها. تقدم لنا الساردة وقفات أشبه بتقنيات تهدئة أو تباطؤ كما ذكرها إيكو، لكي يقوم القارئ بجولات استدلالية، فالقارئ مشارك في استكمال الفجوات التي تركتها، واستنباط الأنساق المضمرة، فهو يستنتج بتجربته الحياتية أو بما تقدمه القصص الأخرى نهاية الحكاية التي جاءت.
جريدة العرب