أثناء عقد التسعينات، ساد نقاش حول العولمة، مضارها وفوائدها، وفي كل الأحوال كانت القناعة الطاغية أنها ماضية قدُماً بما يشبه حركة طبيعية للتاريخ. وكما هي حالنا عادةً، كانت نسبة المتخوّفين من العولمة هي الساحقة مقارنة بقلائل رحبوا بها بحماسة، ولا يندر في مثل هذه المناسبات أن تتلاقى مشارب أيديولوجية مختلفة «أو متصارعة» حول العدو الجديد.
الحركات الإسلامية الجهادية عُدّت آنذاك نوعاً من نتاج العولمة، بوصفها حركة مناهضة لها من حيث الأهداف، ومشابهة لها من حيث استخدامها الحيّز الجغرافي المعولم، وأيضاً من حيث الطموح الضخم إلى السيطرة. بهذا المعنى، اكتسبت مشروعية فكرية (ولو سلباً) تفوق وصف «الإرهاب» الذي واظب الغرب على استخدامه، ولم يكن وصفها بالعدمية السياسية قد خرج إلى التداول.
بالطبع، القوميون بمشاربهم المتباينة كانوا ضد العولمة، وكذلك القسم الأعظم من بقايا اليسار. من ضمن الأخير وجد البعض ضالته في حركات مناهضة العولمة التي راحت تنتشر في الغرب، وأصبحت لها امتدادات ضئيلة لدينا من باب التحوّط ليس إلا، إذ لأسباب مغايرة تلكأت غالبية بلدان المنطقة في الانضمام إلى منظمة التجارة العالمية التي أنشئت في منتصف العقد، وكان يُنظر إليها كممثل لحركة العولمة المتسارعة.
فوق التخوف الاقتصادي الذي رأيناه في اقتصادات أقوى بكثير، كان ثمة نوعان من المخاوف في المنطقة. أولهما الخوف من النقاشات التي بدأت حول تطوير الأمم المتحدة، وتحديداً في ما يخص نزع الاحترام التقليدي عن مسألة «السيادة»، ما يتيح التدخل في بعض الدول لأسباب إنسانية، ليس فحسب ضمن شروط قاسية تتعلق بالسلم الدولي وتخضع لتجاذبات أعضاء مجلس الأمن. الخوف الثاني ذو طبيعة ثقافية، وهو إن وجد في مجتمعات أخرى قد لا يأخذ بالضرورة شكل العُصاب الجماعي، أو التعارض مع منظومة حقوق الإنسان على منوال فهم «خصوصيتنا»، مع التذكير بأن انضمام السلطات العربية إلى الاتفاقيات الحقوقية الدولية لطالما اُرفق بتحفظات أضخم من نصوصها.
لم يكن خــدعة إمبريالية، جرياً على عقــلية المؤامرة، ذلك المناخ الذي شاع بعد ســـقوط المـنظومة الشيوعية، لأن عقود الحرب الباردة عززت تصوراً مـــفاده أن تلك المنــظومة هي العقبة الرئيسية أمام تقدم حقوق الإنسان في العالم، وأيضاً أمام ســـيولة التبادل العالمي. الانتصار كان شاملاً، وقيَمياً أيضاً، على رغم كل ما قد يُقال عن الرأسمالية «المتوحشة». لذا، كانت الآفاق مفعمة بروح التفاؤل، لا بالرأسمالية وإنما بكسر حالة الاستقطاب التي أعاقت الانفتاح العالمي.
أوصاف مثل «القرية الكونية» تبدو لنا اليوم مغرقة في القدم والتقادم، على رغم أننا نعيش في الزمن الذي كان يُفترض تحققها فيه. بل المفارقة الكبرى أن القوى التي كان يُنظر إليها كرأس حربة للعولمة «المتوحشة» هي تقريباً القوى ذاتها التي تقود اليوم تيار الانعزال، وهي التي تنادي بعودة سياسات الحماية السابقة على منظمتي غات والتجارة العالمية.
قد نفسّر نكوص تلك القوى بأنها أخطأت حساباتها، فلم تأتِ لها العولمة بالعائد المنتظر منها، وهذا يؤدي إلى نسف التحليلات القديمة المتخوّفة منها. وقد يفسّر البعض هذا النكوص بآثار الأزمة الاقتصادية العالمية المستمرة منذ نحو عقد، أو بتعاظم الخوف من الهجرة إلى دول الشمال، مع فشل تجارب الاندماج التي ظهر مع الجيلين الثاني والثالث من المهاجرين واللاجئين.
مجمل التفسيرات السابقة قد يقدّم فهماً أفضل لتقدم اليمين الشعبوي هنا أو هناك، إلا أنه لا يفسّر ذلك التراجع المعمم، بما فيه التراجع الفكري، عن المسار السابق. النزعة الانعزالية الحالية تبدو بلا آباء يُعتدّ بهم، على الصعيدين الفكري والسياسي، بخلاف الجدل الواسع والعميق الذي رافق التبشير بالعولمة. المسألة هنا لا تتعلق بحصتنا من النقاش، فالملاحظ بشدة عدم وجود نقاش بسويّة عالية، يفرض ذاته في الغرب لمواجهة الموجة الجديدة، والحجج المستخدمة ضدها مُستلفة من ركاكتها ومن خطرها المتوقع على كل مجتمع محلي، أكثر مما هي حجج تملك أفقاً عالمياً.
إننا، بهذا المعنى، لا نشهد نكوصاً عن العولمة وحسب، وإنما نشهد نكوصاً مقابلاً، وأسوأ تأثيراً، عما كان يمكن تسميته النزوع العالمي. العالمية في مواجهة العولمة، هذا ما كان عليه الرهان لتشذيب الأخيرة من «غرائزيتها». أنصار العالمية ليسوا أصحاب ميول طوباوية أو طهرانية، وليسوا أصوليين على النحو الذي يضعون فيه أنفسهم في مواجهة ما يرونه حركة تاريخ. من هنا، كانت أهمية التفريق بين سياقين غير متعارضين بالمفهوم الجذري، وربما هذا ما أدى إلى انهيارهما معاً.
لقد رأى أنصار العالمية في مساعدة الدول المتخلفة على التنمية حلاً لقضايا الهجرة الاقتصادية، وفي نشر الديموقراطية حلاً لقضايا اللجوء، وفي الحالتين سينعكس الأمر إيجاباً على مشكلات تعاني منها الاقتصادات الكبرى. هذا مثل على رؤية واقعية ومستقبلية لقضية لها موقع في الصدارة اليوم، وكما هو واضح ثمة منطق يخالف الأصوليات التي ترى في الرأسمالية (أو في الغرب عموماً) شراً مطلقاً، وتخاطب الأخير من ضمنه، وبلغة مصالحه.
لقد كان المناخ ملائماً حتى لدراسات تفصيلية من نوع تكامل الأيدي العاملة في بلدان متباعدة جداً، بفضل ثورة الاتصالات، في المهن التي تتطلب عملاً على مدار الساعة. فضلاً عن تشجيع عمل المنظمات الدولية المعنية بالموارد البشرية، حيث راح يُنظر إلى تنميتها كضرورة لاقتصاد عالمي متكامل وأيضاً للانتقال من حالات الاستبداد في الكثير من البلدان.
استرجاع بعض نقاشات تلك المرحلة لا يكشف فحسب انحطاط الواقعين السياسي والاقتصادي الحاليين، بل ربما يكشف أيضاً الجمود الفكري الذي يجعل تهافت السياسي أمراً مقبولاً، ولو على سبيل التسلية والترفيه. نستطيع اليوم مثلاً الضحك عندما يتعمد شخص مثل ترامب إضحاكنا، أو عندما لا يتعمد ذلك تاركاً نفسه على سجيتها. لا بأس في هذه الأثناء ببعض الحنين إلى زمن بشّر بوعود وصراعات من نوع آخر، وفي أردأ الاحتمالات لم يكن ليجعلنا نتوقع ما وصلنا إليه من ضحالة.
جريدة الحياة