لسنوات عدة أذكر جمالها ولا أذكر عددها، لم أكن أحصل على الكتب إلا ما أجده في المكتبات العامة. أكثرها دفئاً، في برد باريس وبرودة أهلها، كانت في «الدائرة السابعة». مع أن الحي كان برجوازياً، بالتعبير الفرنسي الشامت، فقد عثرت لنفسي يومها على غرفة في فندق رخيص، تقع قبالته «روتيسيري» مهمتها الأولى تسهيل الحياة لمن حياته غير سهلة. و«الروتيسيري» عند الفرنسيين بقالة وفرن وشواية دجاج وبطاطا مقلية. وغالباً ما كان الأمر ينقضي بالبطاطا المقلية، ولم تكن السعرات الحرارية هماً. نقصها كان هو الهم.
استكمالاً لتسهيل الحياة، كانت المكتبة العامة على بعد شارعين من الأوتيل والروتيسيري. تقرأ ما شئت من الكتب، إما في صالة المطالعة، أو تستعيرها وتذهب بها إلى غرفتك. غالباً ما اخترت الصالة. وصالات المطالعة لها قوانين وأعراف، أولها الصمت. وترى الرواد كل يوم، لكن عليك أن تتظاهر بأنك لا تراهم. ويبادلونك الخفر.
مع الأيام تصبح الوجوه المداومة مألوفة. ومواعيدها معروفة. ونوعية الكتب التي تقرأها قد لمحتها بطرف عينك. وبين رواد صالة المطالعة، كانت فتاة تبدو أنها تعد دراسة ما. تنتقل بين الرفوف وتستعلم من أمينة المكتبة في صوت هامس. وتدون ملاحظات كثيرة.
صممت أكثر من مرة في محادثتها. في أن أدعوها إلى فنجان قهوة، أو حتى إلى بطاطا مقلية عند الظهر مثل أي فرنسي لا يزال يسمي المال قروشاً. لكنني ترددت. صحيح أنني كنت وحيداً، وهذه مصادفة عملية: كل شيء في متناول اليد، ولا مصاريف نقليات، لكنني لم أجد في نفسي الحماس الكافي. وفوق ذلك ماذا لو رفضت الدعوة. أو ماذا لو كانت تفضل الدجاج المشوي على البطاطا المقلية؟
لذلك، انصرفت إلى كتبي. وكانت تطل بين حين وآخر ضيفة جديدة على غرفة المطالعة من دون أن يخترق حضورها قاعدة الصمت. وكان ذلك حسناً، يمكن الجميع من التركيز على طقوس القراءة. ويستمر المشهد كما هو طوال النهار: رؤوس مسمرة في الكتب أمامها، لا تتحرك إلا لاستبدال كتاب بآخر.
بقي في ذاكرتي وجه الفتاة الذي لا يعني شيئاً. وشعرها الذي لم يعرف مشطاً غير مشطها. كلما عدت إلى باريس أذهب للاطمئنان على ذلك الحي الجميل. الأوتيل والروتيسيري ومقهى «إيكول ميليتير». وهذه المرة لاحظت أن جارتي تتأملني بقوة. وأخيراً التفتُ إليها فقالت ضاحكة: هل تذكرتني؟ لم أتذكرها فقط. بل تذكرت أيضاً أن كلينا أصبح في عمر ممنوع عليه البطاطا المقلية.
جريدة الشرق الاوسط