إذا مررت عابراً على ميدان سفنكس، أحد أشهر ميادين الجيزة، سوف تقع عيناك بالتأكيد على تمثال نجيب محفوظ الذي يتوسط الميدان، وسوف ترى أنه محاط بالصخب المنبعث من كل اتجاه، وأنه يبدو من فوق قاعدته وكأنه يقطع المكان سيراً على قدميه في خطوات بطيئة، بينما العصا الشهيرة في يده يتكىء عليها ويتحسس الطريق، من وراء نظارة لم يكن أديب نوبل يرفعها عن عينيه .
وقد عاش محفوظ حتى رأى التمثال في مكانه، فلما رآه كانت روح الدعابة والفكاهة حاضرة لديه كالعادة، فتطلع مبتسماً إلى تمثاله، وقال في سخرية لاذعة: يبدو أن الفنان الذي صمم تمثالي هذا، لم يقرأ من أعمالي سوى رواية الشحاذ .
وكانت العبارة ساخرة، بقدر ما كانت كاشفة عن معناها بقوة لا تحتاج معها إلى شرح، ولا إلى تفسير .. وكان المعنى أن التمثال لم يعجبه، أما لماذا، فالتعليق اللاذع يشير إلى السبب بكل بيان ! .. وقد كانت روح الدعابة نفسها حاضرة أيضاً، يوم وقّع عقد نشر أعماله الكاملة وحصل على مليون جنيه، ففي أيامها كانت الصحف تنشر أخباراً كثيرة عن رجال أعمال حصلوا على قروض من البنوك بالملايين، ثم هربوا بها !.. وحين سألوه عما فكر فيه بعد الحصول على المليون جنيه، قال ضاحكاً في تلقائية: فكرت في الهرب بها إلى الخارج ! ولا أحد يعرف ما الذي كان كاتبنا العظيم سيقوله، لو أنه عاش هذه الأيام، ليرى اللوحة الصغيرة المُثبتة على مدخل البيت الذي ظل يسكنه، إلى أن غادر دنيانا قبل 12 عاماً ؟!.. فاللوحة تقول بالعربية والإنجليزية إن فلاناً عاش هنا، وأنه عاش من عام كذا، إلى عام كذا !.. وإذا كنت تريد المزيد، فسوف تجد كوداً إلكترونياً على طرف اللوحة، وسوف تستطيع من خلال هذا الكود أن تعرف عن طريق هاتفك، كل ما تحبه عن صاحب الاسم المحفور أمامك على لوحة نحاسية لامعة، ومُزخرفة من جوانبها الأربعة.
والقصة أن جهاز التنسيق الحضاري في وزارة الثقافة المصرية، يتبنى مشروع اللوحات على مستوى القاهرة، ويريد من خلالها أن يؤرخ بطريقة مبتكرة لأعلام من المصريين عاشوا في كل حي من أحياء العاصمة، وكانت عناوينهم دالة عليهم، وكانوا هُم كذلك طريقاً إلى كل هذه العناوين !
فلايزال عنوان نجيب محفوظ محفوراً في أذهان الذين عرفوا الرجل، أو زاروه في بيته، أو مروا من أمامه مع العابرين .. وقد كان يكفي أن تقول : 172 شارع النيل بالعجوزة .. لتعرف أنه محل نجيب محفوظ المختار، الذي لم يهجره يوماً، ولا فكر في البحث عن بيت بديل !
قائمة اللوحات التي جرى تثبيتها على مداخل عدد من البيوت، قائمة طويلة، من جمال عبدالناصر، إلى محمد التابعي، إلى شادي عبدالسلام، إلى فاتن حمامة، إلى سعاد حسني، إلى يوسف شاهين، إلى يوسف إدريس، إلى توفيق الحكيم، إلى عبدالحليم، إلى إحسان عبدالقدوس، إلى مصطفى محمود، إلى محمد عبدالوهاب، إلى أم كلثوم، إلى العشرات من الشخصيات المصرية الشهيرة في كل مجال، وقد بلغ العدد مائة لوحة حتى الآن، وهناك خطة جاهزة بمائة لوحة أخرى في الطريق !
وسوف توضع لوحة أم كلثوم على مدخل برج يحمل اسمها، ويستقر على الشاطئ الآخر المواجه للشاطىء الذي أقام عليه نجيب محفوظ .. ولا تعرف ما إذا كان هذا البرج يحمل اسم كوكب الشرق في أوراق إنشائه بالفعل، أم أن الاسم جرى إطلاقه عليه بين عامة الناس، لمجرد أنه قام على أنقاض الفيلا التي كانت سكناً للآنسة أم كلثوم، منذ ذاعت شهرتها وانتقلت إليها حتى رحيلها عام 1975 ؟!
وسوف يكتشف جهاز التنسيق الحضاري أنه مدعو إلى تثبيت آلاف اللوحات ، لا مئاتها، وسوف تكون كل لوحة بمثابة ذاكرة متحركة في يد كل مَنْ يطالع بياناتها، بفضل الكود الإلكتروني الذي يتحول في لحظة، إلى نهر متدفق من المعلومات عن صاحب الاسم المنقوش !
جريدة الخليج