يصادف السابع من أكتوبر من كل عام ذكرى رحيل الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم (1958-1990)، الرجل الذي يرجع له الفضل في الدفع بدبي إلى مقام المدن الحديثة المتطورة بجهوده الاستثنائية، وفكره الذي كان خارجاً عن المألوف في زمنه. تعدى تأثير راشد سنوات حكمه الثلاثين. وامتد حتى قبل استلامه أمور مشيخة دبي بشكل رسمي. فخلال حكم والده الشيخ سعيد آل مكتوم (1912-1958) كان راشد الدينامو المؤثر في المتغيرات الإيجابية التي شهدتها دبي. ولهذا عهد إليه والده بمسؤولية الإشراف على إدارة شؤون دبي، خاصة فيما يتعلق بأمور الإصلاحات الجمركية والاقتصادية وإنشاء نظام جديد للإدارة المحلية. وهكذا اكتسب راشد خبرة كبيرة في هذا المجال أهّلته بأن يصبح إدارياً متميزاً وضع خبرته في خدمة دبي حينما تسلّم أمور الحكم.
لم يتسلّم راشد إمارة غنية وذات مردود مالي ثابت كما يعتقد البعض. فقد كانت موارد دبي بسيطة ودخلها يأتي من الضرائب البسيطة التي تفرض على الوارد والصادر، وعلى رسوم مناولة السفن التجارية التي تدخل وتخرج من خور دبي. ولهذا أدرك راشد بفكره الاستثنائي أهمية الخور كمصدر من مصادر دخل الإمارة، وعمل جاهداً على الارتقاء بالخدمات التي تقدم عن طريق تطوير هذا الشريان الحيوي ألا وهو خور دبي. ولم تكن دبي في تلك الفترة تمتلك المقومات المالية الكافية لتطوير الخور، ولكن هذا العائق لم يقف في طريق راشد الذي سرعان ما أوجد الحلول المبتكرة لحل هذه القضية. فسرعان ما تكاتفت الجهود المحلية للتجار مع القروض الخارجية، وأسفرت تلك الجهود على توفير التمويل اللازم لتعميق الخور. وهكذا أصبحت السفن الكبيرة تستطيع دخول الخور وإنزال حمولتها على جانبيه.
خور دبي كان بمثابة الشريان الحيوي الذي يغذي الإمارة ويبث فيها الروح والحياة. وعلى الرغم من أن معظم الإمارات تمتلك أخواراً داخلية إلا أن ميزة خور دبي أنه يقسمها إلى قسمين متوازيين سكنت على ضفافهما معظم قبائل دبي وعشائرها. وكما وفرت ضفتا الخور ملاذاً آمناً للسفن، وفرت أيضاً ملاذاً آمناً للكثير من المهاجرين الذين جاؤوا إلي دبي تجذبهم الفرص التجارية الواعدة والضرائب المخفضة والمعاملة الإنسانية الراقية التي تتميز بها الثقافة الإماراتية الحالية. وهكذا ظهرت في دبي جاليات تجارية متنوعة إثنياً وعرقياً وحتى دينياً ساهمت بشكل كبير في ازدهار دبي وتطورها.
وإلى جانب تطوير وتعميق خور دبي كان الشيخ راشد العقل المدبر وراء عدد من المشاريع الحيوية، التي مازالت إمارة دبي تستفيد منها إلى اليوم. فمن مطار دبي إلى ميناء راشد وجبل علي والحوض الجاف إلى البنية التحتية المتطورة التي تتميز بها الإمارة؛ كلها مشاريع حيوية كانت في حينها في نظر البعض مشاريع مكلفة لا طائل كبيراً منها أصبحت اليوم تشكل العمود الفقري لبنية الإمارة الحديثة، وتشكل مواردها دخلاً كبيراً لدبي.
امتلك راشد طاقة إيجابية هائلة ونظرة مستقبلية متميزة. فلم يكن قائداً إدارياً واقتصادياً فقط، بل امتلك رؤية سياسية أهّلته بأن يكون مع أخيه زايد «صناع حدث» لوحدة سياسية شهدتها منطقة الخليج في 1971. فقد كانا القائدين زايد وراشد على مستوى ثقة شعبهما وعلى مستوى تطلعات شعوب المنطقة أجمع.
لقد ترك راشد وراءه إرثاً إدارياً واقتصادياً مهماً، أضاف إليه أبناؤه الكثير؛ لتصبح دبي مدرسة اقتصادية مهمة في التنمية والحداثة. فلا عجب أن تتميز دبي على مثيلاتها من موانئ الخليج بميزة فريدة ألا وهي الرؤية المستقبلية واستشراف المستقبل والاستعداد له. فلا غرو عندما يقال إن مستقبل دبي يخطط له الآن، وبأن ما يجري في دبي الآن من مشاريع تنموية هي لخدمة مستقبل الإمارة في العقود المقبلة. لقد ورث صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد عن أجداده من آل مكتوم ملكات عديدة؛ أهمها الرؤية والقدرة على التخطيط الجيد، والتعامل مع متطلبات العصر بكل اقتدار. فلا غرو أن تصبح دبي مدينة الحلم العربي ومحط أنظار الشباب العرب.
إن دبي وهي في مطلع القرن الحادي والعشرين تختلف كثيراً عن دبي في مطلع القرن العشرين، ولكنها تماثلها في القدرة على تخطي التحديات وجلب أفضل الممارسات الإدارية وفي استشراف المستقبل وفي قدرتها على التنافسية وجاذبيتها للمهاجرين بكل ما توفّره من بيئة جاذبة، ومعاملة راقية وخدمات تضاهي ما هو موجود في أحدث دول العالم. هذه هي تنافسية دبي بين الماضي والحاضر.
جريدة البيان