المسألة اللغوية شديدة الأهمية والتعقيد في زماننا، وعليها ينبني الانسجام المجتمعي، وتنشأ الخلافات الهوياتية التي تسحب المجتمع إلى الأسفل نحو انزلاقات شديدة الخطورة.
في هذا السياق، دار بيني وبين ناشر كتبي الفرنسي في عام 1994، عندما نشر لي بالفرنسية رواية «حارسة الظلال»، ثم بعدها «مرايا الضرير»، و «مضيق المعطوبين»، التي تُرجمت كلها متأخرة إلى اللغة العربية..
سألني قائلاً: لماذا لا تكتب باللغة الفرنسية نهائيا ما دمت قادراً على ذلك، وتتفادى المرور عبر الترجمة؟، قلت له ما قاله لي صديقي الكاتب الروائي التركي المعرف نديم غورسيل: «لدي احترام كبير للغة الفرنسية التي اكتشفت من خلالها كنوزا عالمية، لم تكن معرفتها ممكنة لولاها، ولهذا لا أرى نفسي مؤهلاً في الوقت الحاضر للكتابة بها، إلا عند الحاجة الماسة».
لم يكن ما كتبته باللغة الفرنسية إلا تعبيراً عن الحاجة الماسة التي جعلتني أتنفس من خلال هذه اللغة عطرا آخر، عندما سُدت كل الأبواب في العشرية السوداء، كتبت بها الكثير من أبحاثي، والتجأت إليها مثل بيت ثانٍ عندما وجدتني في مواجهة مصيرية مع الإرهاب، فكان لزاماً مروري عبرها، لأن الناشر العربي تردد خوفا من سطوة الإرهاب.
اللغة الفرنسية أنقذتني من الصمت، أدين لها بالكثير مما حصل لي لاحقا، كانت سنداً عظيماً لمجابهة تخلف الرقابة، ومع ذلك فإن الموضوع يظل إشكاليا كما ذكرت في مناسبات عدة، فبالنسبة للجيل الأول كان الهدف نضالياً من داخل اللغة الفرنسية نفسها لأن اللغة العربية كانت محاربَة من الاستعمار، وحرمت أجيالاً بكاملها منها، أما الأجيال التي جاءت فيما بعد فيختلف وضعها جذرياً، ونحتاج إلى الكثير من الحذر قبل الحكم لأن الوضع صاحَبته أمراضٌ ثقافية لا تحصى.
أعتقد أنه على كل كاتب جزائري سوي يريد أن يكتب باللغة الفرنسية، أن يطرح السؤال التالي على نفسه قبل أي شيء آخر: ماذا يمكن أن أضيف إلى ما كتبه محمد ديب، ومالك حداد، وكاتب ياسين، وآسيا جبار، ورشيد بوجدرة وغيرهم؟، هذا هو السؤال المركزي، وإلا ما جدوى تسويد الأوراق؟، هؤلاء ينتمون إلى جيل كَتب وفق الحاجة، كما كان كاتب ياسين يقول عن اللغة الفرنسية: «اللغة الفرنسية غنيمة حرب»، فاستفاد منها واستغلها وأفاد الممارسة الروائية الجزائرية والإنسانية بقوة أيضا.
ذاك جيل كَتب باللغة التي يتقنها جيداً، والشيء نفسه يمكن أن يقال عن الجيل اللاحق مثل رشيد ميموني والطاهر جاووت، أو الجيل الذي تلاهما كتابةً على الأقل وليس سناً، مثل بوعلام صنصال وسليم باشي وأنور بن مالك، وكمال داوود، الذين أعطوا للرواية الجزائرية المكتوبة بالفرنسية إيقاعا جديداً ونفسا آخر أكثر ارتباطا بأزمات العصر.
إن الكتابة باللغة الفرنسية أو بغيرها مرتبطة أصلاً بالإتقان، لأننا في النهاية نكتب باللغة التي تُوصل حواسنا وعواطفنا بقوة، فللغة ليست حاملة لشيء، وبمقدورها أيضا أن تحمل كل شيء، والبشر هم من يحدد هويتها الثقافية والإيديولوجية.
جريدة الرؤية