ألا حيِّ من أسماءَ رسم المنازلِ
وإن هى لم ترجع بيانا لسائلِ
خلاءٌ تعفتها الرواسى والتقت
عليها أهاضيب الغيوم الحوافلِ
خلايا عرفت الدار بعد ترسُّمٍ
أرانى بها ما كان بالأمس شاغلي
غدت وهى مرعى للظباء وطالما
غنَت وهى مأوى للحسان العقائلِ
فللعين منها بعد تَّزْيال أهلهاَ
معارف أطلالٍ كوحى الرسائلّ
فأسبلت العينان منها بواكفٍ
من الدمع يجرى بعد سحٍّ بوابل
ديار التى هاجت عليّ صبابتي
وأغرت بقلبى لاعجات البلابلِ
من الهيف مقلاق الوشاحين غادةٍ
سليمة مجرى الدمع ريّا الحلاخلِ
إذا ما دنت فوق الفراش لوسْنةٍ
جفا خصرُها عن ردفها المتخاذلِ
هذه الأبيات التى نقرؤها فتستدعى فى ذاكرتنا ما قرأناه للشعراء الجاهليين ومن سار على تقاليدهم من شعراء الأجيال التالية الذين وقفوا على الأطلال وتحدثوا عن المنازل والديار التى رحل عنها أهلوها، وتركوا وراءهم رسومها تسرح فيها الظباء ويقف عليها الشعراء يبكون الحبيبة الغائبة ويتغزلون فيها ويذكرون محاسنها، ويتطرقون لما يرونه حولهم من صور الطبيعة وكائناتها، ومما يخطر لهم ويكشف عن أفكارهم ومواهبهم ومتعهم ومغامراتهم بهذه الروح البدوية المتحررة وهذه اللغة الصريحة الفصيحة هذه الأبيات هل يمكن أن تكون لشاعر مصرى؟
نعم! هى لشاعر مصرى قاهرى عاش فى هذا العصر الحديث الذى نعيش فيه أو فى بدايته، ولم تكن له علاقة بالبدو، ولم يعش حياتهم، ولم يتكلم لغتهم، ولم يقع فى حب أسماء التى وقع فى حبها الحارث بن حلزة منذ أكثر من ألف وخمسمائة سنة. هذه الأبيات هى لمحمود سامى البارودى. وهى من قصيدة تزيد على ثلاثين بيتا استطاع فيها أن يتقمص شخصية الشاعر الجاهلى وأن يرى ما يراه ويحس ما يحسه ويعبر عن أحاسيسه ومشاعره باللغة التى كان يعبر بها شعراء المعلقات عن أحاسيسهم ومشاعرهم. وهى هذه القصيدة واحدة من عدة قصائد وقف فيها البارودى على الأطلال، واستخدم فيها هذه اللغة، واتبع هذه التقاليد الفنية التى نجدها فى الشعر الجاهلى، ونجدها فى بعض قصائد الشعراء الذين ظهروا فى العصور التالية وعاشوا فى دمشق وبغداد وغيرهما من عواصم الدول الإسلامية أمثال بشار بن برد، وأبى نواس، وأبى تمام، والبحترى وغيرهم ممن كانوا يرون أن شعرهم، وخاصة فى المديح، يكتسب أصالة وعراقة وفخامة إذا افتتح بهذه التقاليد البدوية التى تميزت بها القصيدة العربية الكلاسيكية. ومع أن بعض هؤلاء الشعراء كانوا يتبرأون من البدو ومن حياتهم الخشنة وتقاليدهم الصارمة فهم فى قصائد المديح لم يكونوا ينسون هذه التقاليد كما نجد عند أبى نواس الذى يفتتح مديحه لهارون الرشيد بقوله:
لقد طال فى رسم الديار بكائي
وقد طال تردادى بها وعنائي
كأنى مُريغٌ فى الديار طريدةً
أراها أمامى مرة وورائي
لكن أبا نواس لا يكف بعد ذلك عن السخرية من البدو وحياتهم وتقاليدهم:
عاج الشقى على رسم يسائلُهُ
ورحت أسأل عن خمارة البلدّ
يبكى على طلل الماضين من أسدٍ
لا درّ درُّك، قل لى من بنو أسدّ؟!
ومن تميمٌ؟ ومن قيسٌ ولفهما
ليس الأعاريب عند الله من أحد!
هذه المعركة التى قامت حول عمود الشعر والتقاليد الشعرية الموروثة كانت على أشدها فى العصور التى تلت خروج العرب من جزيرتهم واستقرارهم فى البلاد التى فتحوها وامتزجوا بأهلها وظهرت فيها ثقافات عربية، كان لابد أن تختلف عن ثقافة البادية وأن تتصارع معها، وأن تشارك فى هذا الصراع أطراف مختلفة مدفوعة بدوافع مختلفة، وأن تظهر فيها فنون ولهجات لغوية وفنية لم يكن لها وجود ملموس من قبل، كما رأينا فى الشعر الذى انفصل عن أصوله الأولى وعرف الموشحات.
أبو نواس فى الحرب التى أعلنها على التقاليد الموروثة كان يطلب الحرية للشعراء، وكان يدافع عن لغته التى كانت جديدة وكانت جريئة بالقياس إلى لغة الشعر الجاهلى. لكن هناك سببا آخر كان يدفع أبا نواس للسخرية من البدو هو تعصبه لأصوله الفارسية.
غير أن هذا الصراع هدأ فى العصور التالية التى استطاعت فيها ثقافات البلاد المفتوحة أن تفرض نفسها وتفرض لغتها وفنونها التى ظلت تبتعد بها عن أصولها العربية حتى دخلت فى عصور الانحطاط التى لم نخرج منها إلا فى النهضة التى كان إحياء اللغة الفصحى وثقافتها شرطا أساسيا لقيامها، وهذا هو الدور الذى أداه محمود سامى البارودى فى الشعر، كما أداه بقية رواد النهضة من أمثال الطهطاوى، وعلى مبارك، وحسين المرصفى، ومحمد عبده وقاسم أمين فى العلم والفكر الدينى والسياسى والاجتماعى، معتمدين فى أدائهم له على مصدرين أساسيين: الثقافة الأوروبية الحديثة، والتراث العربى القديم. وإذا كانت الثقافة الأوروبية هى المصدر الأول الذى اعتمد عليه رواد النهضة فى العلم النظرى وفى الطب والهندسة والفلك، وفى السياسة والصناعة والاجتماع، فالتراث العربى هو المصدر الأول الذى اعتمد عليه الشعراء والكُتاب فى إحياء اللغة وإحياء آدابها.
ونحن لا نقصد بهذا التمييز بين المصدرين أن نفصل أحدهما عن الآخر. فالواقع أنهما كانا دائما متواصلين. الثقافة الأوروبية تساعد على إعادة اكتشاف التراث العربى وقراءته بروح العصور الحديثة والوصول إلى ما فيه من قيم حية باقية. والتراث العربى ينفتح على ما فى الثقافة الأوروبية من قيم إنسانية وينقل عنها ما وصلت إليه ويطرح عليها أسئلته ويناقش ما تقدمه من إجابات. وقد تكامل المصدران فى إنتاج الطهطاوى، وفى الأدوار التى أداها البارودى فى الشعر والسياسة. ونحن نقرأ شعر البارودى فنجد لغة فصيحة مشرقة تنتقل فى فضائها الواسع بيسر وثقة معتمدة فى الأساس على تراثها المتمدن، لكنها لا تخلو فى بعض القصائد من سمات بدوية. وهى بكل ما فيها لغة صادقة مقنعة كأنها أصبحت عند البارودى فطرة أو لغة أم كما حدث للشعراء ذوى الأصول غير العربية الذين تعربوا فى العصور الإسلامية الأولى كبشار، وأبى نواس، وابن الرومى وتفوقوا على الكثيرين من الشعراء العرب الأقحاح. وهو يشير إلى هذا فى أبيات يعترف فيها لأبى نواس، ومسلم بن الوليد، وأبى تمام، والبحترى، والمتنبى بما قدموه للشعر العربى من أعمال تابعهم فيها وسار على آثارهم، و«ربما سبق إلى أشياء» كما يقول:
مضى «حسن» فى حلبة الشعر سابقا
وأدرك، لم يسبق، ولم يأل «مسلم»
وباراهما «الطائى» فاعترفت له
شهود المعانى بالتى هى أحكم
وأبدع فى القول «الوليد» فشعره
على ما تراه العين وشيُّ منمنم
وأدرك فى الأمثال «أحمد» غاية
تبذ الخطى، ما بعدها متقدم
وسرت على آثارهم، ولربما
سبقت إلى أشياء. والله أعلم
ومن المؤكد أن البارودى سار على آثار هؤلاء. ومن المؤكد أيضا أنه سبق إلى أشياء. هؤلاء ظهروا فى عصور الازدهار فتعلموا منها الكثير. والبارودى ظهر بعد عصر انحطاط طال ومرضت فيه اللغة ومرض الشعر فداواهما البارودى ونفخ فيهما من روح العصر وأنطقهما بآلامه وأحلامه دون أن يبتعد عن تراثهما أو ينكر انتماءه لهذا التراث وعودته إليه وسعيه لإحيائه فى هذا العصر الحديث. وبهذه الروح تقمص شخصية الشاعر الجاهلى ووقف على الأطلال فى بعض قصائده وعارض أبا نواس فى بعضها الآخر وأبا فراس. فهل أخطأ البارودى بهذه العودة أم أصاب؟ هل أحيا الشعر بهذه العودة وفتح أمامه طريق التجدد؟ أم فرض عليه البقاء فى أشكاله القديمة وتقاليده الموروثة؟
الإجابة معروفة للجميع لأن البارودى الذى ولد فى أواسط القرن التاسع عشر وليس فى مصر شاعر معدود رحل فى السنوات الأولى من القرن العشرين وقد ظهر فى مصر إسماعيل صبرى، وولى الدين يكن، وأحمد شوقى، وحافظ إبراهيم وسواهم من الكلاسيكيين الجدد. ثم ظهر بعد هؤلاء شعراء الديوان الذين بشروا بالرومانتيكية وهم عبد الرحمن شكرى، وإبراهيم المازنى، وعباس محمود العقاد. ثم ظهر بعد شعراء الديوان شعراء أبوللو وفى مقدمتهم أبو شادى، وإبراهيم ناجى، وعلى محمود طه، ومحمود حسن إسماعيل، فضلا عمن ظهر معهم من شعراء البلاد الأخرى مثل أبو القاسم الشابى، وإلياس أبو شبكة. ثم ظهر بعد هؤلاء شعراء الأجيال الأخيرة الذين جددوا القصيدة العربية شكلا ومضمونا ووزنا ومعجما. والفضل للبارودى الذى خطا الخطوات الأولى وأصحابه من رواد النهضة ورموزها.
لكن هناك من ينكرون على البارودى هذا الفضل الذى صدقه الواقع واعترف به معتمدين على منطق لفظى مغلوط، وهو أن البارودى عاد إلى التراث القديم ليحييه ولم يتقدم بالشعر إلى الأمام ليجدده!
كلام مضحك. كأن التجديد فى نظر هؤلاء انقطاع عن الأصول. وكأن اللغة كان يمكن أن تعود للحياة إذا ظلت على حالها التى كانت عليها فى عصر الانحطاط تواصل انفصالها وابتعادها عن ماضيها لتتحول فى النهاية إلى لهجة فقيرة منحطة.
ولو أن الذين أنكروا فضل البارودى لأنه عاد إلى التراث القديم قرأوه بقلوب نقية وعقول منفتحة لرأوا أنه لم يعد إلى التراث ليقلده أو يكرره وإنما عاد إليه يطلب ما فيه من صحة ونقاء وبعد عن التصنع والافتعال، وعاد إليه اعجابا وافتتانا بما وجده فيه من حب للحياة وإقبال عليها والاستمتاع بما فيها. فالبارودى يحب فى شعره ويشرب ويسهر ويتغزل ويفخر بسيفه وقلمه، ولا يرى حرجا فى أن يجمع بين الجد إذا حانت ساعته واللعب إذا واتت فرصته. من هنا يعبر فى شعره عن إعجابه بما فى حياة الصحراء من شجاعة وصراحة وحرية كانت مطلبه هو وغيره من زعماء الثورة العرابية. وقد عبر عن هذا فى إحدى قصائده فقال:
فإن لم تجد فى المدن ما شئت من قرى
فاصحر، فإن البيد خير من المدن
صحار يعيش المرء فيها بسيفه
شديد الحميَّا غير مغض على دمن!
ولو أن هؤلاء قرأوا البارودى قبل أن يطلقوا فيه أحكامهم المتعجلة لوجدوا أن لغته العربية الكلاسيكية كانت دائما تعبيرا عن وجدان حديث يحب الحياة ويدافع عن حقه فيها، وأنها لم تمنعه من أن يجددها ويتحاور بها فى بعض قصائده مع العامية المصرية كما نرى فى هذه الأبيات:
رق النسيم لحالى وسال دمع الغمام
وساعدتنى فناحت على ورق الحمام
فيا سمير فؤادى فى يقظتى ومنامي
متى يفوز بوصل أسير لحظك «سامى»؟!
وفى هذه الأبيات:
مرت عليّ تتهادى مثل المهاة بشبره (أى شُبرا)
فقلت هل من وصال يكون للحب أجره
فاستضحكت ثم قالت على الخديعة بكره!
وفى هذه الأبيات:
يا بانة من لى بضمك؟
يا زهرة من لى بشمك؟
يا بنت سيدة النساء!
ترفقى بحياة أمك!
والذين يأخذون على رواد النهضة المصرية عودتهم للتراث يتجاهلون أو يجهلون أن هذه العودة قانون يفرض نفسه فى كل نهضة جديدة، لأننا لا نستطيع أن ننطلق إلى المستقبل إلا لزاد نتزوده من ماضينا الحى نتمثل فيه أنفسنا ونعرف ما نحتاج إليه مما يمكن أن نصنعه بأيدينا أو ننقله عن غيرنا.
وقد رأينا أن الأوروبيين فى عصر نهضتهم نقلوا عنا بعض ما وصلنا إليه لكنهم رجعوا قبل كل شيء إلى تراثهم اليونانى اللاتينى يكشفون عما أهملوه فيه ويعدونه للحياة أو يعودون به للحياة من جديد كما فعل بترارك أمير شعراء إيطاليا فى القرن الرابع عشر عصر النهضة الذى يقول عنه لويس عوض فى كتابه «ثورة الفكر فى عصر النهضة الأوروبية» إن شغفه كان عظيما بالشعراء اللاتينيين «كما افتتن بشعر التروبادور، أى الشعراء الجوالين» وقد نظم بترارك باللاتينية ملحمته «إفريقيا» كما نظم بها أشعاره التى سماها «أغانى الرعاة».
جريدة الأهرام